عرض نقدي: هل يفوز فيلم "كارول" بجائزة أوسكار أحسن فيلم؟

  • 12/2/2015
  • 00:00
  • 12
  • 0
  • 0
news-picture

أوين غلايبرمان ناقد سينمائي يمكن القول إن فيلم كارول للمخرج تود هَينز، الذي يتناول قصة حب ممنوع في خمسينيات القرن الماضي تربط بين شخصية مرموقة في المجتمع (تقوم بدورها الممثلة كيت بلانشيت) وعاملة في متجر (تجسدها الممثلة روني مارا)، أحد أفضل الأفلام التي أُنتجت هذا العام، حسبما يقول الناقد أوين غلايبرمان. في المرة الأخيرة التي تناول فيها المخرج تود هَينز فترة الخمسينيات من القرن الماضي، قدم الرجل عملا ذا طابع تحليلي خيالي لتلك الحقبة التي ماجت بالاضطرابات رغم هدوئها الظاهري. ففيلم فار فروم هيفن (أبعد ما يكون عن الجنة)، الذي أُنتج عام 2002 وشكّل صورة طبق الأصل ولكن ذات طابع مشوه من أعمال المخرج الألماني دوغلاس سيرك المغرقة في العواطف، كان عملا دراميا محيرا ويُسكِرُ مشاهديه بالمشاعر في آن واحد. وقد مثلّ ذلك الفيلم إنجازا بارزا، بقدر يجعل من الممكن الصفح عمن يظن أن كارول؛ أحدث أعمال هَينز، ليس إلا محاولة أخرى للعزف على ذات الأوتار، لكن بشكل يمثل مسعى جديدا لاستلهام روح هوليوود القديمة، وعرضها على نحو مربك يحفل بالتلاعب وخداع البصر. فطبيعة التصميم الفني لـكارول تجعله يبدو، مثل فار فروم هيفن، عملا سينمائيا تقليديا يستهدف استدرار الدموع، ولكنه يتضمن في جوهره تماما ما يمكن اعتباره حدثا أسطوريا وقع في زمن غير زمنه، ألا وهو علاقة حب مثلي ممنوعة. ولكن في هذه المرة، يتخلى هَينز عن تقديسه للجماليات البصرية التي تُبتكر بواسطة التقنيات المتوافرة له في الاستوديو. فذلك الفيلم الذي تدور أحداثه في الولايات المتحدة في مستهل عهد داويت إيزنهاور، لا يستعيد الماضي عبر تصويره من خلال خدع هوليوود (التي يصفها البعض باسم مصنع الأحلام)، ولكنه يحقق ذلك عبر التساؤل عما كانت عليه الحياة في مطلع خمسينيات القرن الماضي. الإجابة أن تلك الحياة كانت أكثر قتامة واهتراءً وسكونا وأيضا غموضا مما اعتدنا أن نراها عليه، مع إشارات ضمنية مستمرة طيلة الأحداث لأجواء الكآبة التي سادت أواخر عقد الأربعينيات. ويصطبغ المشهد الافتتاحي، الذي تدور أحداثه في قسم لعب الأطفال بأحد المتاجر خلال احتفالات عيد الميلاد، بطابع عصبي تقريبا، ينبع من ذاك الجمود والسكون الذي تتسم به تفاصيله التي تعود إلى عصر ما قبل الثورة التكنولوجية. إذ تبدو الدمى وهي بداخل صناديقها الزجاجية - وكأنها ألعاب تعود إلى قرن موغل في القدم، كما أن الإضاءة المعتمة تكسو كل شيء في المكان بالظلال. إنه لمكان مثالي، لكي تلتقي شخصيتان؛ أولاهما تريس (روني مارا)؛ فتاة من هؤلاء الفتيات العاملات في المتاجر، تكسوها الكآبة، التي لا يتناقض معها سوى قبعة سانتا كلوز (بابا نويل)، التي ترتديها وتشكل الشيء الوحيد المبهج المرتبط بها. أما الثانية فهي كارول (كيت بلانشيت)، سيدة جذابة للغاية وقادرة على إغواء الرجال، ترتدي معطفا من فرو المنك. وتبدو في المشهد على وشك افتراس تريس بنظراتها من جهة، والتي تسعى لتقييمها من خلالها من جهة أخرى. والفيلم مأخوذ عن رواية برايس أوف سولت (ثمن الملح) للكاتبة باتريشيا هايسميث، التي صدرت عام 1952، باسم مستعار للكاتبة. وبحسب رواية هايسميث، بدا العالم غابة تعج بالحيوانات المفترسة. وعندما نرى – نحن كمشاهدين – كارول للمرة الأولى، مرتدية قبعتها ووشاحها ذوي اللون الوردي الزاهي، وهي تتصرف بسمتها الراقي المهيب الذي يشوبه قليل من الضجر، يسهل علينا افتراض أنها ليست سوى واحدة من تلك السيدات الفاتنات، اللواتي يعصف بهن الاضطراب والقلق. وفي المشهد، ترمق كارول فتاتها بنظرة ناضجة على نحو فاحش، كما تحدثها بصوت مختال ذي طبيعة ارستقراطية يلمح بالخطيئة في طياته، لتبدو بلانشيت أقرب إلى أداء الممثلة باربرا ستانويك في دورها كأرملة متشحة بالسواد في فيلم ماي ريبيوتشين (سمعتي) الذي أُنتج في أربعينيات القرن الماضي. رغم ذلك، فثمة سبب وجيه لأن تعمد كارول إلى اللجوء لمثل هذا السلوك الموحي للغاية، دون أن تفصح عما تريده. فمع أنها سيدة ثرية ذات وضع اجتماعي متميز، فإنها عالقة في مجتمع لا مكان فيه لرغباتها، ولذا لا خيار لديها تقريبا سوى الإيحاء بما ترغب فيه. وتشبه كارول في هذه الحالة عميلا سريا ولكن فيما يتعلق بالحب والعلاقات الغرامية، فإغواؤها لـتريس، والذي بدأ على وجبة غداء، كان يجب أن يتدثر بالكامل تقريبا بغطاء من التكتم والسرية، نظرا لأنها كانت تحاول توسيع مدارك الفتاة الأخرى الأصغر منها سنا، على مشاعر لم يكن هناك وقتها من يمكن حتى أن يتحدث بشأنها. وبوجه عام، يسهل علينا كمشاهدين اعتبار تريس، بشعر ناصيتها الشبيه بفرو الفأر وطموحها لأن تصبح مصورة، بطلة للعمل تنتقل خلال أحداثه من فتاة مراهقة إلى سيدة بالغة. على الجانب الآخر، تبدو كارول لنا - في بادئ الأمر - الطرف المُهاجِم والمعتدي بلا ريب، وذلك بسلوكها المترف وقصرها المُشيّد من أحجار رمادية اللون (وهو ملمح اقتبسه الفيلم من إحدى لمسات سيركين في فيلمه الميلودرامي كُتب على الريح الذي أُنتج عام 1956). ولكن مشاعرنا حيال هذه الشخصية تصبح أكثر تعقيدا بمجرد أن نعلم أنها تعمل للحصول على الطلاق من زوجها، وتسعى على نحو محموم للحصول على حق الحضانة المشتركة لطفلتهما الصغيرة. أما زوجها متجهم الوجه (يجسد دوره الممثل كايل تشاندلر) فهو على علم بعلاقاتها مع النساء، ويشعر بالاستياء الشديد إزاء هذه العلاقات، ولكنه مغرم بزوجته في الوقت نفسه رغم كل شيء. إنها مسألة سيطرة في واقع الأمر؛ فهو لا يريد التخلي عن كارول. ولكن قرار كارول إنهاء العلاقة الزوجية معه، يتجاوز مجرد الحاجة للابتعاد عن رجل أحمق سكير مهووس بالغيرة وحب التملك. بل يمتد إلى ما هو أعمق؛ التوق إلى حياة يمكن أن تحدد فيها رغباتها – جهارا نهارا – وجودها نفسه. حب سري فبدلا من أن ينخرط فيلم كارول في ألعاب سينمائية ما؛ فإنه يقترب من أن يكون أشبه بنسخة نسوية مثلية من فيلم بروكباك ماونتين (جبل بروكباك): ليروي قصة الهوى المشبوب تلك، التي تزدهر وتصل إلى ذروة نضوجها، في ظلال الاضطرار الهائل لإخفائها بل وإنكار وجودها من الأساس. يخطئ هنا من يحسب أن هَينز يُكِنُ مشاعر حنين لما كان يسود في الماضي من قمع، فالرجل يضمر في الواقع حنينا عميقا للغاية ذا طابع فلسفي لذاك الطابع الرومنطيقي الذي كانت تصطبغ به العلاقات المثلية، قبل أن يُسمح لها حتى بأن تُطلق على نفسها هذا الاسم. فقد حوّل مخرج العمل السنوات الأولى من خمسينيات القرن الماضي، إلى عالم يحفل بالخطايا وتكتنفه الكآبة، ويصبح فيه اللجوء إلى السرية والكتمان ضربا من الاحتماء بملاذٍ ما. وفي إطار أحداث الفيلم، تأخذ كارول تريس في رحلة ترفيهية طويلة بالسيارة إلى شيكاغو. وخلال الرحلة، التي يستقلان خلالها سيارة متداعية وتحفل أيامها بوجبات طعام مشتركة وتنقل من نُزُلٍ إلى آخر من تلك النُزُل المقامة على الطريق، يبدأ حبهما في التفتح والازدهار. وهنا يتجلى أداء بلانشيت ومارا، فالتناغم بينهما لا يقتصر فقط على الحركات الظاهرية، بل إنهما يكادان يرقصان سويا بنظرات العيون فحسب، ما يجعل كل لحظة لهما على الشاشة ترتجف من فرط ما تموج به من مشاعر. على أي حال، فعندما كتبت هايسميث رواية ذي برايس أوف سولت، كان ذلك يشكل خروجا من جانبها عن الأعراف المستقرة؛ ليس فقط بفعل موضوعها الجريء (الذي يأخذ شكل السيرة الذاتية أيضا) ولكن كذلك وفقا للاعتبارات الخاصة بفئة أدب التشويق الذي عملت في إطاره. فهذا العمل أقرب إلى الطابع الميلودرامي المُغرق في المشاعر، منه لعمل حافل بالإثارة والتشويق. رغم ذلك، فإننا نجد أن بعضا من دهاء ومكر المؤلفة نجح في التسلل إلى ثنايا الفيلم. فـكارول وتريس تخضعان لمراقبة مخبر خاص. وعندما يفتضح – في الفيلم – أمر جهاز التسجيل العتيق الذي وُضع لهما خفية للتنصت عليهما، فإن إمكانية التعرض لمراقبة إليكترونية – تلك التي باتت معتادة للغاية بالنسبة لنا الآن – يُحدِثُ ذلك صدمة باعتباره انتهاكاً للخصوصية، في تلك الأجواء الناعسة، التي كانت تسود العالم في حقبة الخمسينيات. وبمجرد تقوض نطاق الخصوصية الذي يحيط بـكارول، تصبح هذه السيدة مهددة بأن تفقد تماما أي حق قانوني لها في الالتقاء بابنتها، وبفعل المخاوف التي يثيرها هذا الأمر يكتسب الفيلم تأثيرا معنويا كبيرا. فلا شك في أن احتمال انقطاع الصلة ما بين أم وطفلها، ينطوي على قسوة ذات طابع استثنائي، ولكن في واقع الأمر إثارة هذه الإمكانية تبدو الطريقة التي يطرح بها مخرج العمل سؤالا مفاده: كيف يمكننا – كمجتمع – رفض تبرير أو إقرار أي نوع من أنواع الحب؟ ولذا، يبدو الفيلم مناسبا بشدة للقول إنه طالما اقترن حدوث أي ارتباط بين شخصين بخيوط خفية من الاضطهاد والقمع، فإن ذلك يعني أننا لا نزال جميعا نحيا في ظلال عقد الخمسينيات من القرن الماضي. ومع أن كارول لا يصل في تميزه الفني إلى الحد الذي بلغه فار فروم هيفن، فإن فيه وميضا معينا ذا طابع ماكر يتسلل إلى نفس مشاهديه. وقد يعود ذلك إلى الصدق الفني الكامن فيه في التعبير عن علاقة حب حقيقية، وما يمتزج بذلك من العزف على نغمة متكررة تتناول ما يمكن أن نسميه ميتافيزيقيا التسامح. من جهتي، لم أكن على ثقة بمدى إعجابي بهذا العمل حتى وصلت إلى المشهد الختامي، الذي يصعب عليك كمشاهد أن تحول بصرك عنه. فالمشهد يحتشد بشحنة من المشاعر البدائية لضابط ورجل تبدو عليه سيماء الوجاهة والنبل، يلتقيان سويا، وهي شحنة يشوبها إحساس بالدوار والترنح. فبالنسبة لـهَينز يعني تناول الوقوع في الحب الحديث عن وقوع أو سقوط بحق، ولذا يبدو فيلم كارول رحلة بديعة إلى الأعماق التي يقود إليها ذلك السقوط. يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Culture.

مشاركة :