حرب بوتين جعلت أوروبا أكثر وحدة من أي وقت مضى، والآن يتمثل التحدي بالتمسك بِـحِـس الغرض المشترك هذا، وبناء اتحاد أوروبي أقوى وأكثر مرونة وقدرة على الصمود واعتمادا على الذات؛ اتحاد أوروبي قادر على تعزيز مصالحه الجيوسياسية في عالَـم يتسم بتجدد تنافس القوى العظمى، ستشكل التحالفات بطبيعة الحال ضرورة أساسية، وخاصة مع الولايات المتحدة وكندا. عادت الحرب إلى أوروبا قبل شهر واحد، حيث هاجمت قوة أوروبية عظمى جارتها الأصغر حجما- التي تَـدَّعي أنها لا حق لها في الوجود كدولة قومية ذات سيادة- بل هددت باستخدام الأسلحة النووية ضد كل من يتحداها، وبهذا، تغير العالم جوهريا، ويتعين على أوروبا أن تتغير معه. بعدوانه غير المبرر على أوكرانيا، دمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عمدا أسس السلام الأوروبي، وإلى حد ما، النظام الدولي بأسره بعد الحرب الباردة، فلم يقتصر الأمر على تدمير العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين الغرب وروسيا؛ بل أصبحت المواجهة العسكرية المباشرة بين حلف شمال الأطلسي (الناتو) وروسيا احتمالا واضحا. الآن، بات لزاما على العالم أن يتعامل مع خطر تصور ذات يوم أنه تغلب عليه وتجاوزه، والذي يتمثل في تَـصاعُـد حدة حرب تدور رحاها في أوروبا لتتحول إلى صراع عالمي ملتهب يلتهم اليابس والأخضر، فإذا اندلعت الحرب العالمية الثالثة، فقد يترتب على ذلك مستوى غير مسبوق من الدمار، حتى بالمعايير الأوروبية، نظرا لاحتمال استخدام أسلحة الدمار الشامل. من المؤكد أن بوتين ارتكب بعض أخطاء التقدير الجسيمة في حساباته، إذ كان من المفترض أن تقطع حربه الخاطفة رأس الحكومة الأوكرانية المنتخبة ديموقراطيا وتضع محلها نظاما صوريا يتحكم فيه بشكل كامل، ولكن يبدو أنه بالغ في تقدير براعة المؤسسة العسكرية الروسية، واستهان بتأهب الأوكرانيين وعزمهم على القتال من أجل بلدهم وحريتهم. ويبدو أن بوتين استهان أيضا بقوة الناتو والاتحاد الأوروبي، فبينما كان بعض المقاومة أمرا متوقعا بلا شك، فإنه لم يتوقع في الأرجح رد الغرب السريع الحازم والموحد، بالإضافة إلى الترحيب بحصة كبيرة من نحو 3.5 ملايين أوكراني أُجـبِـروا على الفرار من وطنهم منذ بداية الغزو، أرسلت الدول الغربية إلى أوكرانيا ما قيمته مليارات الدولارات من الأسلحة وغير ذلك من المواد، كما فرضت عقوبات مالية واقتصادية صارمة- ومتزايدة الحِـدة- على روسيا، وبوتين، وأنصاره. من منظور أوروبا، تعكس هذه الاستجابة مدى قُـرب الحرب العدوانية التي يشنها بوتين وتداعياتها من الديار، يوما بعد يوم، يعاين الأوروبيون القصص الإخبارية، وصور المدن المدمرة والملاجئ المكتظة بالبشر، والمواطنين الأوكرانيين العاديين الذين يتأقلمون بشجاعة مع واقعهم الجديد، التي تنهمر عليهم من شاشات التلفاز ووسائط التواصل الاجتماعي، وكان هذا، جنبا إلى جنب مع وصول اللاجئين إلى كل بلد تقريبا في مختلف أنحاء القارة، سببا في تحويل الحرب إلى سِـمة مميزة لحياة الأوروبيين اليومية. لكن الـصِـلة أشد عمقا من ذلك، إذ يدرك الأوروبيون داخل الاتحاد الأوروبي وخارجه أن عدوان بوتين ليس موجها نحو أوكرانيا فحسب، لقد شنت روسيا هجوما على قيمنا الأشد رسوخا: الديموقراطية، وسيادة القانون، والتعايش السلمي، وحُـرمـة الحدود، وإذا كانت الحرب على أوكرانيا هجوما علينا جميعا، فإن الرد المناسب الوحيد هو الرد الموحد. ولكن رغم أن وحدة أوروبا كانت حتى الآن تستحق الثناء، فلا يزال الطريق أمامنا طويلا، فليس من الواضح بعد كيف قد تتوالى فصول الحرب في أوكرانيا، أو حتى ما إذا كانت أوكرانيا ستظل قائمة كدولة مستقلة، ولكن ليس هناك من شك في أن حرب بوتين ستخلف عواقب عميقة في الأمد الأبعد، بل ربما تكون أشد عمقا من تلك التي خلفتها السنوات الفاصلة عندما انهار نظام الحرب الباردة. بادئ ذي بدء، سيكون انعدام الثقة في روسيا دائما، ولأن علاقة الغرب بروسيا كانت لفترة طويلة إحدى ركائز السلام الأوروبي، فإن هذا يعني ضمنا أن أوروبا يجب أن تعمل على تغيير النهج الذي تتبناه في التعامل مع قضية الأمن، فعلى وجه الخصوص، سيظل جناح الناتو الشرقي وحدود الاتحاد الأوروبي الشرقية عُـرضة للخطر، وهذا يستلزم مستوى أعلى من الحماية العسكرية، وينبغي لهذه المهمة، التي يجب أن يتقاسمها الناتو والاتحاد الأوروبي بالتساوي، أن تحول الاتحاد الأوروبي إلى قوة جيوسياسية. حتى الآن، كانت الأداة الجيوسياسية الوحيدة تحت تصرف الاتحاد الأوروبي تتمثل بوعد العضوية وما ينطوي عليه من آفاق السلام والرخاء واحترام سيادة القانون، ولكن كما أثبت توسع الاتحاد الأوروبي شرقا في بداية هذا القرن، فإن الانضمام لا يكفي وحده لضمان استكمال أي دولة للتحول الجيوسياسي المنشود. في مواجهة تطلعات دول غرب البلقان، فضلا عن تركيا وأوكرانيا ومولدوفا وجورجيا، يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى تطوير نظام أكثر مرونة واستجابة ودقة، أو يخاطر بالانهيار، إن تطور الاتحاد الأوروبي إلى اتحاد سياسي وأمني ودفاعي، وليس مجرد اتحاد اقتصادي ونقدي، يقدم فرصة مثالية. مع تبلور أوروبا على هذه الشاكلة الجديدة، يصبح من الممكن تخطيط رحلة جديدة إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، تتألف من عدة مراحل، وكل منها بمعاييرها وحقوقها والتزاماتها الخاصة، وللانتقال إلى المرحلة التالية، يتعين على الدولة أن تفي بمعايير محددة سلفا تتعلق بالاقتصاد وسيادة القانون والأمن وغير ذلك من المجالات، ربما تتقدم بعض الدول بسرعة، في حين قد لا تصل أخرى أبدا إلى أعلى مستويات عضوية الاتحاد الأوروبي، لكن الجميع سيستفيدون من العلاقات والروابط مع الكتلة. الواقع أن حرب بوتين جعلت أوروبا أكثر وحدة من أي وقت مضى، والآن يتمثل التحدي بالتمسك بِـحِـس الغرض المشترك هذا، وبناء اتحاد أوروبي أقوى وأكثر مرونة وقدرة على الصمود واعتمادا على الذات؛ اتحاد أوروبي قادر على تعزيز مصالحه الجيوسياسية في عالَـم يتسم بتجدد تنافس القوى العظمى، ستشكل التحالفات بطبيعة الحال ضرورة أساسية، وخاصة مع الولايات المتحدة وكندا، ولكن في حين يراقب الأوروبيون بإعجاب وانبهار شجاعة الأوكرانيين وصمودهم، يتعين علينا أن نتعلم منهم أيضا درسا بالغ الأهمية: لن يقاتل أحد من أجلك، من أجل أسرتك وبلدك ومستقبلك، بالقدر ذاته من الصلابة والإصرار، مثلك أنت. * وزير خارجية ألمانيا ونائب مستشارها خلال الفترة من 1998 إلى 2005، وكان أحد زعماء حزب الـخُـضـر الألماني طوال ما يقرب من العشرين عاما. * يوشكا فيشر
مشاركة :