اتخاذ الولايات المتحدة من الديمقراطية أداة لترويج سياستها على مدى السنين الماضية كان له فعل السحر على المنظمات والأحزاب اليسارية والليبرالية في العموم، فهل كانت أمريكا فعلاً تعمل على نشر الديمقراطية؟ أم إنها كانت تبحث عن طريق سالك تعبر من خلاله إلى قلوب النافذين في هذه المنظمات لخلق حالة من عدم الاستقرار في مجتمعاتها؟ بالنسبة إلينا نحن العرب باتت متبنيات الساسة الأمريكيين وأهدافهم جلية ويمكننا وصفها بأقل القليل من الكلام بأنها غير ودية تجاه العرب، إذ إنها سياسة لا ترى إلا ما يحقق مصالحها. فحروب الولايات المتحدة وتدخلاتها المباشرة في شؤون الدول بذريعة نشر الديمقراطية باتت تنهك المجتمعات وتعيق تطورها وتخلق منها دولا فاشلة عديمة الجدوى لمجتمعاتها، وليس علينا إلا النظر بإمعانٍ فيما آل إليه واقع العراق وليبيا واليمن والصومال وأفغانستان وغيرها لكي نعتبر ونتخذ الموقف المناسب من هذه السياسات، وهذا الرصيد المتنامي من قصص الفشل الأمريكي جعل العالم في حالة حراك تفرض علينا أن نكون فاعلين وألا نبقى متفرجين خصوصًا وأننا نمر بمنعطف تاريخي وأمني خطير يتعين فيه إعادة النظر في كثير من الساسات والتحالفات. أثبت التاريخ أن أمريكا لا تضع اعتبارًا لتعهداتها التحالفية مع الآخرين، فهي لأي سبب من الأسباب تنقض هذه التعهدات وتترك الحليف يعالج أمور تحدياته وخصوصًا الأمنية لوحده، هذا إن لم تكن هي أيضا تقدم الدعم لمفاقمة هذه التحديات. لا نتجنى على الولايات المتحدة التي كنا نتمنى لو أنها كانت غير ذلك، فقد حصل لنا معها في عام 2011 ما كاد يقود البلاد إلى الهاوية لولا حكمة القيادة السياسية وتجذر قيم الولاء والانتماء في الشعب البحريني، وحصل في أفغانستان ما كشف العبث الأمريكي عندما تنكرت للحكومة القائمة هناك وفتحت الباب واسعًا لدخول طالبان وإقامة حكمها المتخلف وسط سخط جماهيري ظهرت تعبيراته في رغبة الهجرة الجماعية لأبناء الشعب الأفغاني. ويحصل معها اليوم أيضًا فصل آخر من فصول قصر النظر السياسي والعبث الإستراتيجي مع حلفائها في دول مجلس التعاون في مواجهتهم لإيران التي تشكل تهديدًا صارخًا لأمن الخليج العربي بأسلحتها وبدعمها للميليشيات المتطرفة في أكثر من بلد خليجي. هذه سياسة ثابتة لدى الولايات المتحدة الأمريكية ولكنها أضحت أكثر تجليًا ووضوحًا في فترات إدارات الديمقراطيين، فتجربة العرب مع باراك أوباما لمدة ثماني سنوات ورعايتها لتيارات الإسلام السياسي، سنية وشيعية، في فترة ما سُمي بـ«الربيع العربي»، تحت غطاء دعم الديمقراطية خير دليل على عدم وفاء هذه الإدارة بالتزاماتها تجاه حلفائها. ولولا الواقع السياسي والعسكري الملتهب في العالم لكانت إدارة بايدن تواصل ذات النهج وبأداة الديمقراطية نفسها. وظني أن هذه الإدارة الديمقراطية سيصيبها العطب وسيتم تعطيلها في عالم سوف تسقط معه القطبية الواحدة بحسب ما ترسمه الحرب الدائرة في أوكرانيا، وبحسب مؤشرات تمرد على العنجهية الأمريكية نرصدها هنا وهناك لدى شعوب دول تُعد من أقرب الدول إلى أمريكا، وهي مؤشرات جعلت الخطابات الشعبوية تطفو على السطح السياسي الأوروبي، وجعلت خطابات أخرى أكثر رصانة تعيد إلى الأذهان تساؤلا طُرح منذ انهيار حلف فرصوفيا، أو وارسو، عن جدوى المحافظة على حلف الناتو، وأسرار تحوله إلى خادم أمين للأمريكيين. صحيح أن الديمقراطية كمفهوم تُعد واحدة من أفضل الأدوات التي اخترعتها البشرية لإدارة الشأن العام وتطوير المجتمعات، والولايات المتحدة لا تنظر إلى مفهوم الديمقراطية على أنه إرثًا إنسانيًا ومفهومًا يتجلى بأشكال متنوعة تتحكم فيها السياقات الاجتماعية والثقافية والحضارية، بل أصبحت ملكًا حصريًا لها ولدول أوروبا تلقن الناس دروسا فيها. وفي هذا الإطار لنا أن نقرأ تصريح رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الملفت للانتباه بشعبويته وتبعيته لأمريكا عندما عزى سبب شن روسيا الحرب على أوكرانيا إلى خوفها من انتقال المثال الديمقراطي الأوكراني إلى الداخل الروسي مقللا من أهمية أمن روسيا الذي قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن حربه على أوكرانيا شنت بسببه، ما يدلل على أن استراتيجية التحالف الأمريكي الأوروبي هي نشر الديمقراطية بقيمها الغربية في العالم. فهل يوجد عاقل واحد في العالم بإمكانه أن يصدق مثل هذا الكلام؟! متى كانت أوكرانيا، وهي الجديدة على الحياة الديمقراطية، مثالاً يحتذى به في تطبيقها لها؟ أفليست هي الدولة التي يتحكم في مفاصلها القوميون المتطرفون الذين يذيقون القومية الروسية في أوكرانيا الويلات إلى درجة حركت لدى الروس في الوطن الأم الشعور القومي للدفاع عنهم؟ إن العالم في حالة حراك، ولن يبقى كما كان عليه الحال قبل حرب أوكرانيا، أو كما يقال إن العالم بعد حرب أوكرانيا غير العالم بعدها. روسيا تعيد ترتيب الوضع الدولي لتجعله يتكون من ثلاثة أقطاب، أمريكي وصيني وروسي، وعلى الشعوب أن تختار الحليف الصح الذي يمكن الاعتماد عليه. وحتى لو أن العالم سيحافظ على شكله كما هو عليه الآن، فالثابت أن أمريكا تفقد بالتدريج وباستمرار حلفاءها بسبب سياساتها الأنانية التي لا تنظر إلا لمصالحها نظرة غاب عنها الحس الاستراتيجي الذي ميز في ما مضى سياسات رؤساء كبار للولايات المتحدة الأمريكية لم يعد لأمثالهم وجود إلا في كتب التاريخ.
مشاركة :