نحن والتطرف - د. إبراهيم المطرودي

  • 12/3/2015
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

في معهد الرياض العلمي أثيرت مجموعة من القضايا، وكان منها الغناء وإباحته، وأذكر أنني في تلك الفترة تبنّيت رأي أبي محمد بن حزم، وناضلت عنه، وجرت مساجلات فكرية في تلك القضية، وبلغ خبري مدير المعهد آنذاك، وكان الشيخ عبدالله التويجري، فلم يزد على أن قال لي حين جئت آخذ شهادة تخرجي: أما زلت على رأيك؟! ما زلت أذكر جيدا أحداثاً جرت لي في معهد الرياض العلمي، قبل خمسة وعشرين عاما تقريبا، وكان المعهد حينذاك يضم نخبة من المشايخ الفضلاء، والمدرسين الأكفاء، الذين يُعدّون في نظرتهم وتصوراتهم ثمرة من ثمار المناهج الدينية، والمقررات التعليمية، والخطاب الديني في بلادنا الكريمة. كثير من المشايخ ما زالوا أحياء، وربما أن جمعا غير قليل منهم، ما برح في المعهد العلمي يُدرس الطلاب، وينفع المتعلمين، ويرسم لهم بأخلاقه طريق الوسطية، ودرب التسامح مع الناس. لا أنسى تلك الحقبة، ولا تغيب عن بالي، وأعجب أشد العجب، وأنا أسمع وأشاهد من يُحاول طاقته ووسعه أن يضع اللوم كله على صورة الدين في بلادنا، ويبذل جهده في قرن التطرف، وما يقوده إليه من بلايا، ويجره من ويلات، بما عليه أهل هذه البلاد، وينسى أن يقرن الشيء بضده، والواقع بمخالفه، فيكشف لنا عن تلك الجماهير المسالمة، والشخصيات المتسامحة، التي كانت متكونة على المناهج التعليمية، والمقررات الدراسية نفسها. وأنا اليوم أحب أن أعرض بين أيدي القراء تجربتي تلك، وأسلّط الضوء عليها، فما برح الحديث عن تلك الحقبة يراودني، حين أسمع وأرى من يُظهر العيوب، ويُبرزها، ويدعوه حماسه إلى التغيير أن يغفل عن الجمهور الأغلب، والمساحة الكبرى في المجتمع؛ فالحديث عن هذه الطائفة العظيمة يقتضيه العدل، ويدعو إليه التوازن، وتجذب المرء إليه الموضوعية النسبية التي تمنع الناقد من التطرف أيضا في الوصف، والظلم في الحديث، فما قُوبل شيء بالتطرف إلا زِيد فيه، وأُغريَ الناس به، وأخطر ما يكون هذا حين يصبح في الموقف من الناس، والتقييم لأحوالهم وشؤونهم، وقد قال الأول: ولا تغلُ في شيء من الأمرِ واقتصدْ كلا طرفي قصد الأمور ذميم التطرف في النظر إلى الناس وأحوالهم، وإن كان غرضه الأساسي خيّرا، والدافع إليه مصلحة يراها المتطرف؛ إلا أن صاحبه يحصد نقيض ما أراده، ويجني خلاف ما رمى إليه، ولستُ أستبعد أن تنامي التطرف، وتزايده عن تلك الفترة التي أحببت الحديث عنها، يقف وراءه هذا التقييم الظالم لواقعنا، والباخس لأهله الداعين إلى السلام، والألفة، والوئام، وأحسب أنّ من يدافع عن المختلفين دينا ومذهبا، وهذا حق يلزمنا القيام به، والدفاع عنه في بلدنا وبلدان العالم كله؛ يُنتظر منه أن يلتفت إلى التنوع في بيئته، والاختلاف فيها، ولا يرغمه التطرف أن يحشر الناس في قالب واحد، وخندق واحد، ثم يعجب حين يُدافع الناس عن أنفسهم بمثل طريقته، ويتبنون نهجه، فيزداد التطرف تحت يافطة دفع الظلم، ومناهضة المظلمة، ويتداعى الفريقان أخيرا إلى تنمية ثقافة التطرف، والوقوف معها، وما كان هدفهما إلا أن يُعالج أصحابها، ويُتلطّف في ذلكم معهم أيما تطلف. يُشبه الشجار الذي يجري بين تياراتنا اليوم، ويمنع كل تيار من إبصار حسنات الآخر، ويُعشيه عن الخير فيه، ويُذكي التطرف، وينميه، ما حدث أيام الجاهلية بين تغلب وبكر، ودعا الحارث بن حلِّزة إلى نقد غلو التغلبيين، وشكا منهم شكاية ذات دلالة كبيرة، وبلغ به الأمر أن وصفهم بأخذ البريء بذنب المذنب، فقال في معلقته الشهيرة، وفيه من الغموض ما في شعر تلك الفترة: وأتانا من الحوادثِ والأنبا ءِ خطْبٌ نُعنى به ونُساءُ أنّ إخواننا الأراقمَ يغْلو نَ علينا في قيلهم إحْفاءُ يخلطون البريءَ منا بذي الذنبِ ولا ينفعُ الخليَّ الخَلاءُ زعموا أنّ كلَّ من ضربَ العِيرَ مُوَالٍ لنا وأنّا الوَلاءُ! هذه هي حالنا اليوم، يؤخذ العامة بذنب القلة، وتُهجى الطائفة بجريرة الأفراد، وتُدان الأمة ببعضها، وحين يقع التعميم في الحكم، والمبالغة والتفريط فيه، يقع ما كنا نحذر، ويجري ما كنا نتجنب، فيتصامت الناس عن إدانة التطرف، وتضطرهم المظلمة إلى السكوت عن سفهائهم، والبعد عن إدانتهم، والأخذ على أيديهم، وحينها يستحيل الإصلاح، ويمتنع التغيير، ويأبى كلّ أن ينساق وراء ما يراه الآخرون، ويقترحون عليه، ونصبح في حالة عناد عامة، ورفض مستحكم، وبهذا نكون كافة كحُنين وخُفيه في المثل المشهور. في معهد الرياض العلمي أثيرت مجموعة من القضايا، وكان منها الغناء وإباحته، وأذكر أنني في تلك الفترة تبنّيت رأي أبي محمد بن حزم، وناضلت عنه، وجرت مساجلات فكرية في تلك القضية، وبلغ خبري مدير المعهد آنذاك، وكان الشيخ عبدالله التويجري، فلم يزد على أن قال لي حين جئت آخذ شهادة تخرجي: أما زلت على رأيك؟! لم أشعر، مع أنني كنت أطرح رأيي على الطلاب، وأُجادلهم فيه، حتى بلغ الأمر ببعضهم أن طلبني للمناظرة في مكتبة المعهد العلمي؛ أن أحدا من المشايخ حينها تقصدني بأذى، أو رام أن يلحقه بي، بل قضيت دراستي، والتحقت بكلية اللغة، ومضيت فيها على ما كنتُ عليه من جدل وحوار، ولم أجد يوما في نفسي أن هؤلاء الذين يعلموننا يبغون ظلم طالب لرأيه، أو بخس حقه لجدله، ومخالفته، وكل هذا وذاك يُجبرني على أن أتحدث بقلمي، وأرفع بهذا صوتي، عما كان يتحلّى به فريق عريض من مجتمعنا، وهم خريجو مناهجنا ومقرراتنا، من سماحة خلق، وطيب نفس، وبُعد عن التطرف في الرأي، والتزمت فيه، وهم فريق من هذا المجتمع، ويلزمنا إبرازهم، والحديث عنهم، وما زالوا، وما زال لهم أشباه وأمثال؛ غير أنّ صراع التيارات، وتنابزها بالألقاب، يضطرنا إلى التمحور حول القلة القليلة التي نتصارع معها، ويُنسينا السمت الغالب على مجتمعنا، والخلق الفاضل فيه وفي أهله، فنأخذ البريء، كما هي حال الحارث بن حلزة، بذنب الجاني، ويدفع عفيف اللسان، وهادئ الطبع، ضريبة خلافنا مع غيره من المتطرفين، والغالين، وفي نهاية المطاف، إذا استمرّ هذا التطرف والمغالاة في النظر إلى الناس مذاهبهم وآرائهم، سيرى ذلكم النائي عن التطرف، والقالي لثقافته، نفسه مضطرا أن يُشارك في المعركة، ويجتمع في خندق أقرب الناس إليه، ونكون بتطرفنا سببا في نماء التطرف، وزكائه في مجتمعنا، ولو كنا عدلنا في القضية، وأصبنا المحزّ فيها؛ ما ساعدنا على نشرها، ولا نشرنا، بفعل هذا الصراع المحتدم بيننا، في العالمين أننا متطرفون، وأن ديننا، للأسف، داعية تطرف، وسبب من أسبابه؛ فالعالم اليوم يُردد ما يدور بيننا، ويحتج ببعضنا على بعض، فهي بضاعتنا ردت إلينا، وما من عجب أن يتهمك الناس من حولك بما تُردده في بيئتك، وتدافع عنه، وهذا ما يجعلني أذهب إلى أن جزءا غير يسير من تشويهنا، وتشويه ديننا، عائد إلى هذا الصراع الجاري في مجتمعنا، وهو صراع فقد حد التوسط، وانتهى إلى التطرف في معالجة بعض مظاهر التطرف، وأصبحنا، أمةً ومجتمعاً وطوائف وتيارات، ضحية من ضحايا التطرف في المعالجة، وما أشد على المرء أن يكون مرضه، وعلته، من محاولة تطبيبه وشفائه، ولعل السبب في ذاك أننا شعراء حتى في معالجة أخطائنا الثقافية، وظننا لطول تداول الشعر بيننا، فهو كما قيل ديواننا، أن طريقة الشعراء صالحة، وهي قائمة على التطرف والمغالاة، في حل التحديات الفكرية، ومعالجة المسائل الثقافية، فأصبحنا نتهاجى، ويُشهّر بعضنا ببعض، ويغلو فريق منا في حق الآخر، وغاب عنا ما قاله الملك الروماني عن الناس في كتابه "التأملات": "خُلق الناس من أجل بعضهم البعض، إذًا علّمهم أو تحمّلهم"، فلا تُشهّر بهم، ولا تهجهم، ولا تضطرك محاولات الإصلاح بينهم؛ أن تعيبهم وتطعن فيهم، وتُشوّه سمعتهم، وتُظهر مجتمعك وأهل بلدك في صورة ذلكم المتطرف الذي أغضبك، حين فكّرت أن تُصلحه، وتُسدي إليه معروفك!.

مشاركة :