تُعد فترة القرن 14ق.م من الفترات العصيبة في تاريخ سورية(بلاد الشام) القديم؛ حيث كانت تعاني من تنافس دولي؛ تتجاذبها ثلاث قوى رئيسة: المصريون ـ الحثيون ـ الميتانيون، علمًا أن المصريين والحثيين كانوا أكثر تأثيرا في مجريات الأحداث آنذاك، واقتصر التنافس والصراع بينهما على النصف الشمالي من سورية. وفي ظلِّ تلك الأجواء المشحونة بالتنافس الخارجي على سورية، ظهر في المنطقة صراع وانقسام داخلي قوي في هذا القرن، خلال عهد الملكين المصريين أمنحتب الثالث (1405-1367ق.م)، وابنه أمنحتب الرابع "أخناتون" (1367-1350ق.م). ومن بعدهما سمنخ كا رع (1350-1347ق.م)، ولم تعرف سورية مثل هذا الصراع من قبل، واستمر هذا لعقود من الزمن من هذ القرن. يقدم الباحث اليمني د.محمد إسماعيل الحميري في كتابه "صراع القوى المحلية في سورية خلال القرن 14 ق.م.. في ضوء رسائل العمارنة"قراءة تحليلية كاشفة لهذا الصراع حيث وقف على كافة القوى التي أسهمت فيه ـ استنادا إلى رسائل تل العمارنة، مؤكدا أن الصراع والانقسام جاب في مدن سورية عامة؛ من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها. وخلال هذه الفترة، ظهرت عشرات القوى الجديدة في المنطقة، فيما كانت بعضها موجودة سابقًا. ولفت في الكتاب الصادر عن مؤسسة أروقة إلى أن رسائل العمارنة ـ المصدر الرئيس للدراسة ـ تقدم صورة تاريخية عما كان يجري في ربوع المنطقة، الذي تمثلهُ عشرات الإمارات التي كانت واجهة في الصراع، ولعل أبرزها: أمورو، وجُبْلا (جبيل)، وصورّي (صور)، وصيدونا (صيدا)، وبيروتا (بيروت)، وقادش، وأروادا (أرواد)، وبلاد عَمْقِ (البقاع)، ونُخَشّي، وتونيب، وقَطْنا، وأُبِ ونيا، وبلاد جاري (الجولان)، فضلًا عن قوى أخرى، وجلها كانت وحدات سياسية تقع في النصف الشمالي من سورية.ولم يختلف الجنوب السوري (فلسطين) عن شماله، فقد برزت فيه قوى عديدة، أهمها مدن: شكم، وجزري، وأوروسليم (القدس)، ومَجِدّا(مجدو)، وعكّا،وجينتي كرمِل، وجيتي بدلا، وقِلْتو، وجيمتي، وأشقلونا (عسقلان) ولاكيشا، ناهيك عن قوى أخرى. وأكد أن أداءُ هذا الصراعِ اتسم بالقوة؛ بين إمارة وأخرى، أو عن طريق أحلاف داخلية ـ ثنائية أو جماعية ـ ضد أحلافٍ أخرى، أو ضدّ إمارة واحدة، ونجم عن ذلكَ فتن وحروب في أغلبِ المدنِ السورية، في ظل صمت الملك المصري، الذي لم يكن حازمًا في الخروج على رأس حملة عسكرية لإيقاف الصراع، وإعادة الأمور إلى نصابها، باعتبار الكثير من المناطق كانت تخضع لنفوذ بلاده، ويدين أمراؤها بالولاء له. لم يحدث كل ذلك، على الرغم من رسائل الاستغاثة من غالبية حكام المدن السورية، تدعوه للتدخل لحسم الموقف، وإعادة الأمور إلى نصابها. صحيح أنه أرسل قوات مصرية، لكن لم تؤد دورًا حاسمًا. ورأى الحميري إنّ التاريخ السياسي لسورية خلال القرن 14 ق.م يُفصح أنّ المنطقةَ عاشتْ نمطينِ من الكيانات يمكن تقسيمها إلى ولايات مستقوية مع بعضها، وولايات مغلوبة. فعلى سبيل المثال، تمثل النمط الأول إمارات أمورو غرب البقاع وظهيرها في الساحل، وأروادا (أرواد) على الساحل السوري، وقادش في الوسط السوري، وجزري وشكم في الجنوب السوري. وأما النمط الثاني فتمثله إمارات جُبْلا على الساحل السوري. وأُبِ وقطنا ونُخَشّي وتونيب وعَمْقِ في الوسط السوري، أما في الجنوب السوري فهناك مَجِدّا (مجدو) وأوروسليم (القدس).علمًا أنّ الأعمال التوسعية والعدوانية اتخذت أساليب فردية أو جماعية، مع الأخذِ بعينِ الاعتبارِ أن كلَّ تلك الأعمال تخدم المصلحةَ الذاتية أو الأجندة الخارجية؛ وأعني بذلك المصريين والحثيين الذين كان لهم إسهام في الصراع بين المدن وتأجيج بعض الأحداث فيها في الشمال السوري. أما الميتانيون فكانوا الحلقة الأضعف بين القوى العظمى ـ آنذاك ـ ولم يكن لهم دورٌ يذكر في الصراع الداخلي، لكنهم كانوا إحدى القوى الخارجية الموجودة في المنطقة. وظلت الجماعات البدوية (الخبيرو) يعملون مرتزقة ويؤدون أدوارًا ثانوية في إثارةِ القلاقلِ وإشاعةِ الرعب وقطع السُّبلِ في أغلب ربوع سورية. وأضاف أنه تأسيسًا على هذه الرؤية في تعدد الصراع وشموله لمعظم مدن سورية، جاءت هذه الدراسة التي ترجع أهميتها من كونها وفت تناول الصراع الداخلي في سورية خلال القرن 14ق.م، وألقت نظرة واسعة وشاملة بالتحليل والنقد، وتتبعتالقوى المحلية وعلاقاتها الداخلية في سورية خلال هذه الفترة، وكيف تطورت العلاقات بين بعضها من طور السلم إلى طور التنافس والصراع. وقد قُسِّمت الدارسة إلى تمهيد ومدخل وأربعة فصول، وذُيلت بالخاتمة والخرائط. وجاءت عناوينها كالتالي: موقع سورية وأهميته، مدينة العمارنة ورسائل العمارنة،"الممالك والإمارات السورية ومحيطها الإقليمي خلال القرنين 15 و14ق.م"، "صراع القوى المحلية في وسط وشمال سورية/ القرن الرابع عشر قبل الميلاد"، و"صراع القوى المحلية في غرب سورية (الساحل الكنعاني الفينيقي) / القرن 14ق.م"، و"صراع القوى المحلية في فلسطين/ القرن 14ق.م". أثبتالحميري استنادًا إلى رسائل العمارنة أن تدهور الأوضاع في سورية وتحديدًا في نصفها الشمالي يعود إلى أواخر عهد الملك المصري أمنحتب الثالث (1405-1367ق.م)، وأخذ الصراع مراحل الزخم في عهد ابنه أمنحتب الرابع (أخناتون) (1367-1350ق.م). وأن الانفلات الأمني في سورية أسهم في حدوث الصراع في غالبية المدن. وكان من أسباب ذلك الانفلات تجنيد بدو الخبيرو الذين عملوا قوات مرتزقة في خدمة بعض القوى، بما في ذلك بعض القوى التابعة للنفوذ المصري في سورية الوسطى وظهيرها في الساحل، فضلًا عن بعض القوى المؤيدة للحكم المصري في فلسطين، حيث كان الخبيرو ينهبون المدن ويخربونها، وبسببهم انفصلت بعض المدن عن مراكز حكمها، وخرج بعضها عن النفوذ المصري، وقد استخدمتهم بعض القوى لتخويف خصومها. وقد كان لسوء الإدارة المصرية في بعض المدن إسهام في حدوث الصراع في المنطقة؛ حيث لم يقدم الإداريون المصريون مساعدة عسكرية للحكام الذين تعرضوا لمضايقة جيرانهم كما يجب، كما أنهم أسهموا في تأجيج الصراع بين المدن في بعض الأحيان. وكشف أن السياسة الداخلية للملكين المصريين أمنحتب الثالث، وأمنحتب الرابع، أدت إلى حدوث الصراع الذي شمل معظم أرجاء سورية خلال 14 ق.م، وهي السياسة التي انعكست آثارها السلبية في تراخي وضعف النفوذ المصري في سورية. فأما أمنحتب الثالث فقد آثرأحياناسياسة السلم عن الحرب، والانصراف نحو البذخ والترف والاكتفاء بالحصول على المال والتجارة والجزية. وأما ابنه أمنحتب الرابع (أخناتون) فقد اهتم بدعوته الدينية وإهمال الخارج. وقد أدت السياسة الداخلية لهذين الملكين إلى تقويض النفوذ المصري في سورية، وانعكس ذلك على حدوث الفوضى والصراع الداخلي بين المدن السورية. لكن السياسة الداخلية للملكين لم تبعدهما عن المنطقة نهائيا؛ فعلى الرغم من ميول أمنحتب الثالث إلى الرفاهية وولعه بالنساء، لكنه لم يكن متقاعسًا عما كان يحدث في المنطقة، فقد وصل إلى سورية؛ لأسباب لا نعرف كنهها. كما أن حياة الرفاهية لم تمنعه من تلبية نداء حليفه رب هدا حاكم جبلا، حيث أرسل حملة نجحت في اقتياد الملك الأموري عبدي أشيرة أسيرًا بيد القوات المصرية. والأمر يقع على أمنحتب الرابع (أخناتون)، الذي كانت له جهود في إرسال قوات إلى سورية، لكنها لم تؤدِ واجبها على النحو المرجو. وأكد الحميري أن التوسع الحثي لم يكن في بعض مناطق سورية ليؤدي دوره الكامل، لولا مساعدة بعض حكام المدن السورية التي وقفت إلى جانب الحثيين ضد بعض المدن السورية الأخرى. وعلى الرغم مما تعرضت له مدن عَمْق (البقاع) من عدوان خارجي وبمساعدة بعض مدن الداخل، إلا أن بعضها ظلت على استعداد للتحرر من نير الحثيين وحلفائهم، وهو ما تؤكده رسائل العمارنة التي يختم حكامها رسائلهم إلى الملك المصري بطلب إرسال قوة لدحر الغزاة. وقد اقتضت المصلحة المصرية في المنطقة تقديم المساعدة حتى لأعدائهم؛ ومن ذلك إرسال حملة مصرية إلى أمورو لتدارك الموقف فيها؛ استجابة لطلب المندوب المصري في إرسال قوة، فضلًا عن ذلك أن النفوذ الميتاني حتم على الملك المصري إرسال حملة إلى أمورو؛ لأن الميتانيين أخذوا يتوسعون في المنطقة، بل وصل الأمر أن أمورو أخذت تدفع الجزية لهم. وتابع أن تعامل القائمون على أمورو ـ خلال عصر العمارنة ـ مع خصومهم بوسائل عدة، ومن ذلك الملك الأموري عبدي أشيرة الذي أثبتت قرائين الأمور أنه كان ضليعًا بشكل أو بآخر في قتل حاكم صوري.ولم تختلف هذه السياسية في عهد ابنه عزيرو الذي تلطخت يداه بالدماء؛ فكان له إسهام في محاولة اغتيال رب هدا حاكم جُبلا، وقتل ملك أميّا. وأشار الحميري إلى تشابه أحداث فلسطين خلال عصر العمارنة مع أحداث الشمال السوري والفرق بينهما أن فلسطين كانت تحت السيادة المصرية، في حين أن النصف الشمالي من سورية كان يخضع للنفوذ المصري والحثي. وقال إن لبآيا حاكم مدينة شكم، بدأ نشاطاته التوسعية على حساب مدينة جزري على الأرجح في الفترة المبكرة من حكمه؛ بسبب أعمال عدائية قام بها ملكي لي حاكم جزري ضد لبآيا حاكم شكم، وقد اتسمت السيطرة عليها بقصر المدة، والانسحاب السريع. ولم تكن مدينة قلتو بعيدة عن الأحدث، فقد دخلت في صراع مع لبايا حاكم شكم وتزامن ذلك في فترة ما من حربه ضد مدينة جزري، لكن لبايا لم يحقق نجاحًا يُذكر، وفشل في السيطرة على المدن التابعة لقلتو. كما دخلت قلتو في صراع مع أوروسيلم (القدس)، على عهد حاكمها عبدي خبا الذي استطاع أن يسيطر على قتلو بحجة أن شوورداتا احتجز عنده رجلا وقطيعًا تابعًا لعبدي خبا. وظلت قلتو تحت سيطرة أوروسليم لفترة غير معروفة، حتى تم تحريرها بمساهمة بعض المدن الفلسطينية؛ على الأرجح بزعامة جزري التي قدمت الدعم لقلتو للخروج من تحت نير أوروسليم. ورأى الحميري أن قرائن الأمور تدل أن لبآيا حاكم شكم كان أحد المحرضين للحرب التي قام بها الخبيرو في فلسطين؛ فعلاقته تذكرها الرسائل المرسلة من حاكمي جزري وأوروسليم، بل إن تعاون شكم معهم اعترف به لبآيا نفسه؛ في إشارة إلى تعاون ابنه مع الخبيرو، وعلى الرغم من اعتذاره للملك المصري على هذا العمل، فإنه واصل نشاطاته التوسعية في المنطقة، حيث قام بحرب ضد مَجِدّا (مجدو). ولم يعانِ بيريديّا حاكم مجدا من حرب لبآيا وحسب، وإنما من حرب الخبيرو، الذين اتسمت حربهم عليه بالقوة، ووقفوا إلى جانب لبآيا. ومن المرجح أن من أسباب الحرب على مَجِدّا ارتباطها بالقوات المصرية؛ حيث أغرى لبايا عودتها إلى مصر بالحرب على مَجِدّا. الذي هاجم المدينة وأحكم عليها الحصار، ولعلّ ما شجعه على ذلك أنه تنامى إلى سمعه عدم قدوم قوات مصرية. وأضاف أن بيريديّا حاكم مجدا الحرب لم يَخُض منفردا، فقد كان إلى جانبه يشداتا حاكم مدينة قرب تعنكا، فضلًا عن سُراتا حاكم عكّا، أما الحلف الثاني بزعامة لبآيا حاكم شكم وإلى جانبه بعل مخير حاكم بيت تني. وهي الحرب التي انتهت بهزيمة لبآيا الذي وقع أسيرًا بيد سراتا حاكم عكا، لكنه أطلق سراحه لهثًا وراء الفضة، وخوفه من بطش القائمين على شكم، وهم أولاد لبايا؛ الذين كان لهم دورٌ في المنطقة بعد أبيهم، هذا إلى أن مجريات الأحداث أثبتت أن القائمين على مدينة عكّا حرصوا ألا يكونوا أداة للحكام الآخرين أو حتى الإذعان لمناديب الملك في بعض الأحيان. شهدت العلاقة بين شكم وجزري انفراجًا على عهد لبآيا حاكم شكم وملكي لي حاكم جزري، في نهاية حكم لبآيا. ثم تطورت هذه العلاقة بين المدينتين عقب وفاة لبآيا في عهد ابنيه، اللذين حافظا على العلاقة مع جزري. ومن المرجح أن من أسباب التحالف، هزيمة لبآيا أمام بيريديا ومن لف حوله من حكام المدن مثل يشداتا الذي كان يحكم مدينة قرب تخنكا، وسراتا حاكم عكّا، ويبدو أن هذه الهزيمة دفعت لبآيا للبحث عن حليف جديد، ووجد ضالته بعدوه القديم، وهو ملكي لي حاكم جزري. وقد غاب الأمن والاستقرار عن المنطقة عقب وفاة لبآيا؛ فقد شهدت فلسطين الوسطى وبعض مدن جنوبها فوضى، كان أبناء لبآيا أحد القوى الفاعلة والمؤثرة فيها.
مشاركة :