في الوقت الذي تسجل فيه البرامج التلفزيونية هبوطاً في مستوى النوعية، وفي الوقت الذي تكتسحنا فيه تفاهات التيك توك ومواقع التواصل الاجتماعي بشكل تسوناميٍّ غريب، أصبح المشاهد العاقل الواعي شيئاً فشيئاً يجد نفسه خارج دائرة المشاهدة واهتمامات المسؤولين خاصة في وسائل الإعلام المرئية، بالكاد يجد هذا المشاهد ما يتابعه. وهذا التناقض اللاّمفهوم يضعنا في مواجهة حقيقة محزنة، هل هذه هي نتائج الثورة التعليمية التي رغبنا في الوصول إليها بعد نصف قرن من محاولات النهوض العربي لمجاراة الدول المتحضّرة؟ وهل وُجِدت وسائل الإعلام لتبهج التافهين بكل أنواعهم، وتحشر العقلاء في الهامش المنسي مع سبق الإصرار والترصُّد؟ ألا يمكن رؤية مستقبل شعوبنا بعد عشرية من تغذيته بالتفاهة والكارثة التي سنصل إليها؟ هذا الطّرح في الحقيقة يحتاج إلى دقّ أجراس الخطر الذي يتهدّد مجتمعنا بعد هذه الحفلة التافهة والطويلة والتي تقلّص من إنتاج أفراد مسؤولين، ناضجين، يُعتَمَد عليهم في عمليّة البناء والهدم. ولأنّ الإغراق في النّظري قد يجعل الرؤية غير واضحة، سآخذكم إلى برنامج جميل إسمه "بروين شو" تعود فيه الإعلامية والشاعرة البحرينية بروين حبيب بطبق فكري فنّي شهيّ في غاية الرّقي لجمهور أحيل على التقاعد مجبراً. عبر إطلالتها الجميلة وضيوفها المختارين بعناية نستعيد السكينة التي افتقدناها وسط الضجيج الذي أصبح رفيقاً يومياً لنا، أصوات في غاية الرّوعة أنشدت ما يمكن أن يهزّ الروح، وحكايات من عمق النوستالجيا للزمن الجميل أعادت للمحرومين من الفرجة السليمة الأمل في أنّ الجمال والإبداع موجودان في كومة "الخرابيط" التي تحيط بنا، لكن بقليل من الاجتهاد يمكن إبرازهما، ليس فقط لإرضاء الجمهور الرّاقي الواعي، بل لتهذيب الذّائقة العامّة وحمايتها من الانفلات والهبوط إلى مستويات البذاءة. تطربنا الفنانة هلا رشدي وتعيدنا لأكثر الأيام دفئاً وهي تسمعنا تتر مسلسل "محمد رسول الله" وهو أكثر الأعمال الدرامية التصاقاً بذاكرتنا الرمضانية، محمد محسن، غالية بن علي، عبدالعزيز مخيون، عفاف شعيب ورموز للتحف الدرامية التي شكّلت جزءاً مهماً من وعينا، مواضيع متنوعة فكرية واجتماعية، عرفت حبيب تقديمها لجمهورها بشكل خفيف لطيف، معتمدة في ذلك على تبسيط المعقّد والفلسفي وتحويله لمادّة إعلامية تليق بأغلب مستويات التلقّي. "بروين شو" أو لقاء الخميس الذي يجمعنا على فضائية دبي TV مكسب تلفزيوني كبير، خاصة أنه صادف الشهر الفضيل، حيث تتنافس الفضائيات العربية لتقديم برامج تسلية تفقد في الغالب نكهتها بسبب المبالغة في التهريج الذي لا معنى له بهدف تحقيق "تراندات" كتلك التي تحققها تفاهات التيك توك وما شابهه. في رمضان أيضاً تتحفنا هذه الإعلامية الفذّة ببرنامج آخر إسمه "المُلهم" تحدّثنا فيه عن قصص "مؤثرين" وجدوا في الزّمن الصعب، وحققوا انقلابات في عالم الأفكار والأزياء والابتكار، مثل كوكو شانيل، ووالتر إلياس ديزني، وآخرين.
مشاركة :