مع استمرار الغزو الروسي لأوكرانيا والتصعيد المستمر للعنف من كلا الجانبين؛ ازدادت الجهود الدولية للتوسط في وقف إطلاق النار ومحاولة إنهاء الصراع، بما فيها محاولة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين. يأتي ذلك إلى جانب التزامات الرئيس الأوكراني، «زيلينسكي»، بالتوصل إلى تسوية تحافظ على استقلال «كييف» وسيادتها. ومع ذلك، لا تزال هناك عوائق عديدة أمام الوصول إلى صيغة تفاوضية، حيث لم يتحقق «تقدم ملموس»، في هذا الشأن. في 20 مارس 2022، أعلن «زيلينسكي» التزامه بحل دبلوماسي، قائلاً: إنه «مستعد للمفاوضات» مع موسكو، وأوضح أن «الأمر لا يعني أنني أريد التحدث مع بوتين»، ولكني «بحاجة والعالم إلى التحدث معه»، لأنه لا توجد طريقة أخرى لوقف هذه الحرب». وإدراكا للتكلفة البشرية الفادحة لاستمرار الحرب فترة أطول، قال: إنه «إذا كانت هناك فرصة بنسبة 1% فقط لوقف هذه الحرب، فنحن بحاجة إلى اغتنامها». ومن هذا المنطلق، أشار العديد من المحللين إلى إمكانية التوصل إلى تسوية بدعم من «واشنطن»، وحلفائها. وتستند هذه المواقف إلى واقع الوضع في أوكرانيا، وأنه من غير المرجح خروج روسيا من البلاد في وقت قريب. وكتب «توماس جراهام»، و«راجان مينون»، في مجلة «فورين أفيرز» أنه «في الحرب بين الديمقراطية والاستبداد أو الخير والشر»، فإن «السلام الذي يفرضه المنتصر هو وحده سيد الموقف»، ولكن في هذه الحالة، «من المرجح أن النصر المُرضي بعيد المنال في الوقت الحالي، ما يستلزم التسوية وتقديم تنازلات». ومشيرا إلى تصريحات «زيلينسكي» -المذكورة أعلاه- حث «جيمس أكتون»، من «مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي»، الولايات المتحدة على دعم تسوية سلمية مع روسيا. وبحسب الباحث فإن دعم «زيلينسكي» للمبادرات الدبلوماسية يشير إلى أن «خطة أوكرانيا لإنهاء هذه الحرب، ربما لا تهدف إلى هزيمة القوات الروسية»، بل «جعل احتمالية استمرار الحرب والاحتلال الذي قد يتبعها مؤلمة بالنسبة لموسكو»، ليرى «بوتين» أن قبوله لـ«اتفاقية تسوية تحافظ على استقلال أوكرانيا، هو أقل الضررين». وفي مثل هذه الحالة، سيتعين عليه أن يقبل «بما هو أقل» من المطالبة بحياد أوكرانيا. وفي المقابل، رأى «جراهام» و«مينون» أنه نظرًا إلى أن روسيا تحتل الآن أجزاء كبيرة من شرق أوكرانيا، فإنه بجانب «مهادنة» موسكو، «يجب على كييف وشركائها تحديد مدى استعدادهم للتنازل» من أجل سلام دائم. ودعما لجهود السلام الأوكرانية، تحدث المراقبون عن استخدام الوعد بتخفيف العقوبات كحافز رئيسي لروسيا لوقف الحرب. وأشار «أكتون» إلى أن العقوبات الاقتصادية الغربية تعمل على «تعزيز» موقف «زيلينسكي» الدبلوماسي ضد «بوتين»، حيث إنه «من غير المتصور أن يوافق الأخير على تسوية بدون تخفيف هذه العقوبات». لذلك، «يجب على الدول الغربية» أن تكون مستعدة لرفعها، إذا «تفاوض البلدان من أجل تنفيذ اتفاقية تسوية». وحول ما يمكن أن تفعله «واشنطن» لمساعدة العملية الدبلوماسية الأوكرانية، اقترح «أكتون» إرسال الرئيس الأمريكي «نائبا موثوقا به»، لمحاولة التفاوض مع موسكو، محددا وزير الخارجية «بلينكين»، أو مدير وكالة الاستخبارات المركزية «ويليامز بيرنز»، مرشحين محتملين. وبينما أقر بأن احتمالية نجاح مثل هذا الإجراء «غير مضمونة»، أعرب «زيلينسكي» عن «دعمه لتخفيف العقوبات عن روسيا في مقابل تنفيذ أي اتفاق يتم التفاوض عليه». ومع ذلك، دعمت الدول الغربية حتى الآن فرض العقوبات على موسكو. وأعلن وزير المالية الفرنسي «برونو لومير» «حربا اقتصادية ومالية ضد روسيا». وأوضحت وزيرة الخارجية البريطانية «ليز تروس» أن الغرض من العقوبات «إضعاف الاقتصاد الروسي». لذلك، يبدو أن الهدف الواضح منها يتمثل في التسبب في مشاكل اقتصادية طويلة الأمد لموسكو، وإضعاف موقف «بوتين» الداخلي. وبينما أعلن المحللون دعمهم للعملية الدبلوماسية -بمساندة ودعم غربي- لوقف الصراع؛ يظل التفاوض دبلوماسيًا مع «موسكو»، حذرا ومحدودا، نظرًا إلى تاريخها الحديث في التراجع عن الاتفاقات، وغزوها أوكرانيا على الرغم من ادعاء بوتين أنه لا ينوي ذلك. وفي السياق ذاته، وصف «جيمس نيكسي»، من «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، الدعوات إلى تقديم تنازلات غربية وأوكرانية لروسيا مقابل وقف الأخيرة لهجماتها، بأنها «حسنة النية»، لكنها معيبة بسبب عجزها عن فهم الديناميكيات والدوافع وراء الصراع. وحذر من «الحقيقة المتمثلة في عدم وجود استراتيجيات «خالية من المخاطر» لهذه الحرب، وأن السوابق في جورجيا عام 2008، وأوكرانيا عام 2014، والتي «أظهرت رغبة في التهدئة واستعدادًا للتفاوض»، لم تقم إلا بإقناع الرئيس الروسي بأن «يسير على الطريق الصحيح»، وبالتالي «تقديم مطالب أخرى» لأعدائه. وفي غضون ذلك، رأى «كورت فولكر»، المبعوث الأمريكي السابق لأوكرانيا، أن بوتين «مصمم على تحقيق نصر عسكري»، ولا يريد تسوية سلمية، وبالتالي فإن تزويد الغرب لكييف «بكل الدعم والضمانات الممكنة» هو أمر «جوهري». واعترافًا بهذا أيضًا، أشار «أكتون» إلى أنه حتى لو كان «بوتين» مهتما بـ«تسوية تفاوضية»، «فإن لديه حافزا واضحا للتقليل من أهمية هذا الأمر في الوقت الحالي»، وأنه حتى إذا تدهور الوضع أكثر، فإنه «سيمضي قدما، بغضّ النظر عن أي تنازلات قد يقدمها زيلينسكي».. لذلك، يرى أن الرئيس الروسي يحاول في نهاية المطاف «الحصول على تنازلات أكبر» من كييف. لهذه الأسباب، قللت «واشنطن» من احتمالية التوصل إلى تسوية سلمية. وعلق وزير الخارجية الأمريكي «بلينكين» بأن تصرفات روسيا كل يوم «تنافي أي جهد دبلوماسي جادّ لإنهاء الحرب». ومع ذلك، فقد عرضت دعمها للجهود الدبلوماسية. وصرحت سفيرتها لدى الأمم المتحدة، «ليندا غرينفيلد»، «بأننا دعمنا المفاوضات التي حاول الرئيس زيلينسكي القيام بها مع الروس»، مع تأكيدها أن المحادثات الحالية «أحادية الجانب»، وأن موسكو «لم تظهر ميلاً إلى أي حل تفاوضي ودبلوماسي». وعلى المدى الطويل، تعمل الانتكاسات العسكرية الروسية في أوكرانيا على إضعاف المواقف التفاوضية لبوتين، إذ لم يحدث النصر السريع الذي توقعه. وأوضح تقرير صادر عن «معهد دراسة الحرب» أن «القوات الأوكرانية هزمت الحملة الروسية الأولى لهذه الحرب»، مع هدف الأخيرة في «الاستيلاء على كييف والمدن الكبرى وتغيير النظام». وأكد «توم نيكولز»، من مجلة «ذي أتلاتنيك»، أن «بوتين» الآن «يواجه هزيمة استراتيجية» في حرب لم يكن أحد «يتوقع أن يُمنى بها». ومع ذلك، حذر «أكتون» من أنه على الرغم من المقاومة «البطولية والفعالة» للأوكرانيين حتى الآن، فإن الوضع العام لا يزال «محفوفًا بالمخاطر»، بالنسبة لكييف، وقد تنتصر «موسكو» في صراع طويل الأمد. وفي الواقع، لم يعد أي من الطرفين قويًا بما يكفي لإجبار الآخر على التراجع الشامل.. وعليه، ستصبح التسوية أكثر احتمالية. وفي حين أن الأوكرانيين قدموا حتى الآن دفاعًا قويًا عن بلادهم، فقد تعرضت قواتهم المسلحة لضربات شديدة، ولم تظهر سوى القليل من الإمكانات لدفع القوات الروسية إلى حدودها الشرقية. وأشار «جراهام» و«مينون» إلى أنه «لا يوجد طريق واضح لانتصار حاسم على روسيا»، وخاصة أن الأخيرة «تبدو مستعدة لقبول تكلفة» الغزو، «إذا كان هذا هو ما يلزم لإخضاع أوكرانيا». بالإضافة إلى ذلك، فإن إصرار «زيلينسكي» على تسوية سلمية مقبولة لأوكرانيا سينطوي فقط على «تنازلات محدودة»، فضلا عن «ضمانات أمنية»، و«استعادة وحدة الأراضي»، وهي الأمور التي تهدف روسيا عمدًا إلى إنكارها، وعليه، تبدو احتمالات السلام حاليًا بعيدة المنال. من ناحية أخرى، فإن تدهور الوضع الإنساني في أوكرانيا هو اعتبار رئيسي آخر لـ«زيلينسكي»، وبعض المعلقين، الذين يدعمون جهود التفاوض مع روسيا. ومن وجهة نظر «جراهام» و«مينون»، فإن «التحدي الأكثر إلحاحًا» هو إقرار وقف لإطلاق النار بين الجانبين؛ لتقديم المساعدة الإنسانية للمدنيين واللاجئين، حيث إن هذا الوضع «سيخلق ظروفا من أجل دبلوماسية أكثر فاعلية». علاوة على ذلك، أثار القصف العشوائي الروسي ضد مدن، مثل «كييف»، و«ماريوبول»، الدعوات إلى إجراء تحقيقات من قبل المحكمة الجنائية الدولية. واتهم وزير الدفاع الأمريكي «لويد أوستن» بوتين باستهداف «مدن وبلدات ومدنيين»؛ لأن جيشه «لم يتمكن من إنجاز الأهداف بالسرعة التي يريدها». ووفقًا للأمم المتحدة، قُتل ما لا يقل عن 900 مدني أوكراني خلال الغزو حتى الآن، بينما فر أكثر من 3 ملايين من البلاد. وأشار «جيسو نيا»، و«جمانة قدور»، من «المجلس الأطلسي»، إلى أن «هناك مؤشرات على أن المجتمع الدولي سوف يتابع مسؤولية روسيا عن هذه الجرائم، بالإضافة إلى «الجرائم السابقة»؛ الأمر الذي يثير التساؤل حول كيفية قيام الغرب بتسهيل مفاوضات السلام مع دولة متهمة بمثل هذه الانتهاكات. وبشكل عام، هناك اتفاق على أن استمرار الحرب لن يؤدي إلا إلى تدهور الوضع أكثر. مع تأكيد «أكتون» أنه في حين تفشل أوكرانيا في إخراج القوات الروسية من أراضيها، وتفشل الجهود الدبلوماسية؛ فإن «روسيا سوف تستهدف المواطنين بشكل عشوائي أكثر من ذي قبل». وهكذا، لاحظ «جراهام» و«مينون» أنه مع تزايد عدد القتلى والدمار، فإن الأولوية يجب أن تكون لإنهاء المعاناة»، وأنه «لا يمكن تحقيق ذلك، إلا من خلال المشاركة الدبلوماسية التي تؤدي إلى تسوية سياسية». وفي ضوء هذه الديناميكيات، فإن السعي لإجراء عملية تفاوضية قد يكون حاسما. ومع ذلك، فإن عدم مشاركة بعض الدول القادرة على التأثير على روسيا في الجهود الدبلوماسية قد قُوبل بالإدانة. وانتقد المعلقون بشكل خاص دور الصين المحدود لوقف الأعمال العدائية الروسية. وأوضح «جود بلانشيت»، من «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، أن موقف بكين الدبلوماسي المتمثل في تغيير لغتها ببطء «لإظهار عدم الرضا تجاه روسيا» قد اعتبره المسؤولون الغربيون «ضعيفا جدًا»، وليس إدانة واضحة. على العموم.. على الرغم من مساعدة الغرب لأوكرانيا في جهودها الدبلوماسية لإنهاء الحرب، فإن المفاوضات لحل هذا الصراع لن تتقدم حتى يتم إغراء موسكو للدخول في عملية تفاوضية، سواء من خلال احتمال تحقيق أهدافها الحربية، أو من خلال رفع العقوبات الاقتصادية والسياسية ضدها من قبل المجتمع الدولي. وفي الوقت الحالي، لا يبدو هذا السيناريو مرجحًا، إذا صعدت روسيا حملاتها في جميع أنحاء أوكرانيا. وفي الأخير، وبينما «لن يكون أي طرف راضيا عن جميع جوانب التسوية النهائية»، فإنه بدون «التنازلات الصعبة» قد لا تنتهي الحرب في وقت قريب».
مشاركة :