قدم الباحث والأكاديمي ناصر بن حمود الحسني، الحاصل على درجة الدكتوراه في الآداب، أكثر من عشر إصدارات في الأدب والنقد، ومن بينها “الرحلة في روايات محمد بن سيف الرحبي”، “بوح القارئ”، “سرديات عربية”، “أغاني الحب”، “سيرة القرية”، “ومضات من الأدب العربي” وغيرها.
وقد خصص الجانب الأبرز من تجربته لمتابعة النصوص الأدبية العمانية بشكل خاص والعربية عامة في مختلف الأجناس من شعر وقصة ورواية.
مشروع نقدي
ناصر الحسني: للأسف نحن العرب سقطنا في قطيعة مع تراثنا
المتتبع لسيرة الحسني مع الكتابة يجد له العديد من الإصدارات في شأن النقد، وهنا يقربنا من إصدار “الرحلة في روايات محمد بن سيف الرحبي”، دراسة سردية سيميولوجية، الصادر 2020، ويكشف لنا المحفزات التي جعلته يتجه إلى هذا الإصدار على وجه الخصوص، يقول الحسني “هي عبارة عن خلاصة في التجربة الذاتية لقراءة روايات واحد من كتاب الرواية في سلطنة عمان، له منجزات في مختلف أنواع الكلمة المكتوبة قصة، رواية، مقالات، مسرح، وكذلك نصوص على حواف الشعر وغيرها”.
ويضيف “هذه الدراسة تعتبر مهمة بالنسبة إليّ فهي تقدم الرحبي كمشروع ثقافي، تستحق كتاباته أن تدرس وأن تناقش وأن يتم التعامل معها من قبل الجيل الحالي، بمزيد من التفاعل والتحليل، ولهذا ظفرت بنصوص هذه الروايات الخمس لتنطلق الدراسة وهي تؤسس هذا المشروع، وفي اعتقادي أن من أوصل معظم المبدعين في وطننا العربي، كنجيب محفوظ ليست كتاباته فحسب؛ وإنما شارك مع مشروعه الثقافي والأدبي والفكري مجموعة من النقاد الذين كتبوا عن أعماله ورواياته ليقدموا للعالم كاتبا وروائيا يستحق أن ينال على إثرها جائزة عالمية في الآداب مثل جائزة نوبل”.
كما أن الدراسة تأتي بشيء من التعمق لوصفها من الداخل فهي قرأت خمس روايات للكاتب محمد بن سيف الرحبي بداية من “رحلة أبوزيد العماني” و”الخشت” و”السيد مر من هنا” و”الشويرة” و”اسمها هند”، وتوقف الحسني عند كل رواية ليحاور موضوع الرحلة وكيف تمثلت فيها السيميولوجيا، من خلال السرد والحوار والحبكة والزمان والمكان والشخصيات؛ وكيف انتقلت هذه الشخصيات عبر الأزمنة المختلفة والأمكنة المتعددة لتحقق مفهوم السفر والتنقل والترحال، بل والارتحال الذي يتجسد واقعا كما يتجسد افتراضيا، ويكون في هيئات مختلفة بحسب كل رواية وما آلت إليه أحداثها.
يتابع الكاتب “رحلة أبوزيد العماني رحلة بين مسقط والقاهرة والإسكندرية أي بين مصر وعمان استطاع الكاتب أن يصف الأحداث والسرديات الجديدة بطريقة عميقة تنطلق من الذات الفاعلة لتعبّر عن معاناتها وفق الضوابط والقيود التي تفرضها المجتمعات بما يتناسب مع قوانينها وأنظمتها المختلفة؛ و‘الخشت‘ تلك اللعبة الشعبية كيف استطاع الكاتب تحويلها إلى لعبة الحياة بشكل عام ويصبها من مسرح الحياة إلى حياة الكتابة الروائية في الأوراق البيضاء، و‘السيد مرّ من هنا‘ استلهم فيها الكاتب التاريخ ليكون منه مادة غاية في الروعة والجمال لاستعادة أمجاد الحضارة العمانية وإمبراطوريتها التي لا تغرب عنها الشمس في عهد سعيد بن سلطان، أما ‘الشويرة‘ فهي حارة الكاتب التي خاتلت الذاكرة بين الماضي والحاضر وحاورت الذات المرتحلة في موسم الهجرة إلى الشمال ومدى تأثير موسم الهجرة إلى الجنوب في الحياة الاجتماعية العمانية”.
☚ التصاق ذات الكاتب الأدبية بالمكان (لوحة للفنان أنور سونيا)
☚ التصاق ذات الكاتب الأدبية بالمكان (لوحة للفنان أنور سونيا)
ويتابع “بينما ‘اسمها هند‘ تلك الرواية المعاصرة التي بدأت عبر الأسلاك في عصر الإنترنت والتواصل الاجتماعي وانتشار البريد الإلكتروني، وعاشت في الأسلاك أيضا رغم وجود الألم والأمل بأسلوب مدهش وكيف تمثلت الرحلة الافتراضية لتلك الأحداث والشخصيات من خلال التخاطب والحوار والإثارة، وهكذا دأب الكاتب الرحبي على التجريب عبر أشكال مختلفة في الرواية ودورنا كمحاولين للاشتغال في الكتابة النقدية وتتبع هذه الأشكال وتحليلها بغية التوصل إلى إضاءة النصوص”.
وفي إطار النقد، للكاتب الحسني عدة إصدارات بما فيها “بوح القارئ”، و”سرديات عربية”، وهنا يأخذنا إلى تجربته مع النقد وأدواته المتصلة بهذه التجربة ويوضح قائلا “أحاول التجريب في ما يتعلق بالنقد، حتى تكون صلتي بما درست غير منبتة، وبعض الأحيان يتعلق هذا التجريب بمنهج الدراسة الذي أستخدمه فهو متنوع وغير ثابت إذ تأتي المحاولات في فن أدبي واحد مثل الشعر في كتابي ‘بوح القارئ‘، وكذلك القصة والرواية في كتابي ‘سرديات عربية‘ محتفيا بما ينجزه الكتاب سواء في بلدنا عمان أو في وطننا العربي الكبير، لعلنا نضع لبنة في هذا البناء الشامخ بما يسهم ورسالة الباحث التي يحملها على عاتقه اتجاه بلده ومجتمعه وأمته”.
ويتحدث الحسني عن مسيرته النقدية المتخصصة في سلطنة عمان من خلال الأعمال النوعية التي نراها على الساحة الثقافية كل عام يقول “الحديث عن مسيرة النقد في الحقيقة ذو شجون، فنحن للأسف سقطنا في قطيعة مع التراث، وإلا كيف لأمة لا تبني على ما جاء عند الجاحظ من آراء نقدية، وكيف لها ألا تواصل البناء على كتابات ابن قتيبة والآمدي والقاضي الجرجاني وابن رشيق القيرواني وغيرهم ممن أسسوا النقد القديم وقدموا إنتاجا قبل أكثر من ألف سنة”.
ويتابع “ما جاء في العصر الحديث من نقد عند طه حسين وصلاح عبدالصبور وغيرهما للأسف لا يؤسس لمدرسة نقدية عربية، وأصبحنا نستورد النظريات والمناهج النقدية من الغرب، وبلغة التفاؤل التي نعيشها اليوم هناك محاولات جادة لقيام مدرسة نقدية عربية عسى ولعل أن تنجح، أما في عمان فهناك حراك جاد ومثمر في الحقيقة لمواكبة الإنتاج الأدبي بمختلف الأجناس والأنواع الكتابية، وهذا الحراك يحتاج أن يشجع؛ فلا تنمو شجرة الإبداع إلا إذا سقتها رياح التشجيع، ولا بد من تبني هذا الحراك بشكل مؤسسي حتى تكون الثمرة يانعة وتؤتي أكلها كل حين”.
الكاتب لا يتوقف
☚ تفاعل الكاتب اليومي أصبح ملحّا في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وعليه التنقل بين عوالمه الواقعية والافتراضية
☚ تفاعل الكاتب اليومي أصبح ملحّا في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وعليه التنقل بين عوالمه الواقعية والافتراضية
المتتبع للكتّاب في سلطنة عمان يجد أنهم مسكونون بتفاصيل الأرض وتفاصيلها، وغالبا ما يجدها تؤثث واقعه مع الكتابة، هنا يفند الحسني ماهية “سيرة القرية، سيرة للمكان والزمان”، وكيف أظهر تفاصيلها، ومدى تأثره والتصاق ذاته الأدبية بالمكان، ويقول “سيرة القرية العمانية هي سيرة ‘قرية المسفاة بولاية دماء والطائيين‘، سيرة المكان والزمان، قدمت فيها تأريخا أدبيا حافلا لهذه القرية بكل تفاصيلها لفترة ممتدة لأكثر من 50 عاما عبر توثيق التراث الشفهي المروي وغير المادي في مختلف الفنون والألعاب الشعبية والعادات والتقاليد والمناسبات الاجتماعية والدينية والوطنية، وبعض المواقف والنوادر وغيرها”.
ويضيف “عندما يهاجر الإنسان من القرية التي عاش فيها طفولته وشب وترعرع فيها إلى حيث العلم والعمل تنتابه موجات من الحنين تجاه منازل الخطوة الأولى، يستذكر من خلالها الطفولة ومراحل الحياة، تجتاحه الوجوه والذكريات الجميلة للبشر والحجر والشجر، تغزو خلجات قلبه تلك الأصوات البعيدة الممتدة عبر السنوات ليسمع أصوات المطر والأشجار والحيوانات المختلفة التي تسكن القرية مما يجعل الإنسان مأخوذا من تلابيب عقله وقلبه؛ فيصب كل هذه الأشواق في كتابات أشبه بيوميات مسافر أو عابر أو مرتحل ليناغي طبيعة القرية الجبلية وهدوءها الساكن في واحة غناء، فينسجم مع لقاءات البشر في المسجد والحارة والمجلس ورملة الوادي بحثا عن الإنسان في كل الوجوه التي تجتمع مع إجازة نهاية الأسبوع؛ فكيف لا تكون ‘المسفاة‘ مصدرا للإلهام والكتابة والشعر والحياة؟! وهي بلا شك تستحق أكثر من ذلك”.
علاقة الحسني بالكتابة ليست وليدة الأمس، فهي ممتدة إلى سنوات طويلة، وهنا يقرب القارئ ذاتيا من هذه العلاقة وما تشكله من أثر حياتي وثقافي له في قوله “الكتابة حياة وخلود، هذا الشعار الذي عقدت العزم أن أرفعه ما حييت، وقد بدأت بالكتابة في المرحلة الإعدادية لكني لم أنشر إذ ظلت تلك الكتابات في الأوراق حبيسة الأدراج حتى حصلت على درجة الماجستير في الأدب العربي القديم 2012 حينها بدأت سلسلة نشر بشكل أسبوعي في الصحف المحلية، ولمدة لا تقل عن خمس سنوات متواصلة، ولهذا أنا فخور بنضج التجربة الكتابية اليوم إذ أنها طبخت على نار هادئة، ولا شك أن الإنسان يظل طالب علم في مدرسة الكتابة والحياة، ينهل من معينها وفي كل يوم يتعلم شيئا جديدا ومفيدا، ولا تزال الكتابة تشكل هاجسا للخوض في مختلف الأجناس الكتابية إذ يظل الكاتب يتنفس شعرا وقصة ورواية وخاطرة ومقالة ما دامت الأنفاس مستمرة والروح مليئة بالمغامرة والمخاتلة والمشاغبة والعطاء”.
ما جاء في العصر الحديث من نقد عند طه حسين وصلاح عبدالصبور وغيرهما لا يؤسس لمدرسة نقدية عربية
للكاتب الحسني وجهة نظر شخصية في مدى الحاجة للكتابة، وكيف من الممكن أن تكون هذه الكتابة أكثر قربا من ذواتنا وانفعالاتنا وتناقضاتنا ويؤكد “الكاتب لا يتوقف عن الكتابة أبدا فهي كالماء والهواء عنده، هو صاحب رسالة وهدف ويتحلى بالحب والشغف دائما لما يكتب متفاعلا مع ما يقرأ أو يسمع من أخبار في مختلف ضروب الحياة، ولا شك أن التفاعل اليومي من قبل الكاتب أصبح ملحّا في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، ومن المهم أن يتناوب في الانتقال من عوالمه الواقعية والافتراضية بحيث لا يعيش خلف تلك الشاشات دون أن يكون له أثر في محيطه ومجتمعه، كما لا يتماهى مع المجتمع دون أن يطلع على اهتمامات الشباب وتوجهاتهم، ولا يتركها دون أن يتفاعل معها بشكل إيجابي”.
وفي نهاية هذا الحديث وفي شأن التواصل الثقافي بين الكتاب والأدباء، وكون أن الحسني رئيس لجنة الجمعية العمانية للكتاب والأدباء بمحافظة شمال الشرقية، يشير إلى الحاجة إلى ذلك التواصل، وبما ستخرج اللجنة من أعمال على مدى الفترة المقبلة، وهنا يوضح “لجنة كتاب وأدباء محافظة شمال الشرقية أشهرت في النصف الثاني من عام 2021 ووضعنا خططا وبرامج وفعاليات للنهوض بالشأن الثقافي والأدبي والفكري والحضاري لشباب المحافظة من الأعضاء والمثقفين والمهتمين في هذا الجانب”.
ويضيف “لا يزال العمل مستمرا من أجل الرقي والوصول إلى تحقيق أهداف ومضامين الجمعية العمانية للكتاب والأدباء، ومهمتنا خدمة الكاتب والمثقف والأديب في كل شبر من تراب هذا الوطن، وهناك برامج وفعاليات مختلفة لكل فرق اللجنة سواء الشعر الفصيح والشعبي والدراسات والبحوث والصحة والدعوة والإرشاد حيث تتضافر الجهود من أجل رفع لواء الثقافة في هذه المحافظة الشامخة والسامية بسمو أبنائها وإنجازاتهم المشهودة عبر التاريخ”.