مهرجان دبي السينمائي (1): ثلاثة أفلام يعرضها «دبي» تختلف في الأساليب وتلتقي في الهم الاجتماعي

  • 12/9/2013
  • 00:00
  • 48
  • 0
  • 0
news-picture

دبي: محمد رُضا تحت رعاية الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، انطلقت الدورة الـ10 من مهرجان دبي السينمائي الدولي (السادس حتى الـ16 من هذا الشهر) ضمن هالة كبيرة من التوقعات مصدرها هذه المرة أنها الدورة التي ترمز لانقضاء عقد من حياته يحلو للمتابع فيها مراجعة ما جرى إنجازه وتوقع ما سيكون عليه وضع السنوات المقبلة. وما جرى إنجازه كثير. كيف تعدد ضربات نجاح متلاحقة بدأت أولا بتأسيس أول مهرجان سينمائي عربي - دولي في منطقة الخليج، ومرت من عام 2004 إلى اليوم بحلقات من التطور المؤكد. من مهرجان نجح من البداية في لفت الأنظار إليه مرتبطا بمدينة باتت حديث العالم نظرا لإنجازات حكومتها ومسؤوليها على أكثر من صعيد، إلى مهرجان رسخ هذا النجاح الأول، وأضاف عليه سريعا ما تجاوز مجرد تقليد الإقامة إلى تفعيل الدورات بحرفية عالية؟ أي مهرجان يحقق نجاحا يضمن له التواصل هو إنجاز بحد ذاته، فما الحال إذا ما كان هذا المهرجان يحقق كل عام إضافة نوعية ويصعد درجة أو درجتين في السلم بين المهرجانات الدولية؟ هذا الصعود لا علاقة له بمن حضر ومن لم يحضر من النجوم؟ من سار على السجادة الحمراء ومن دخل من دون الوقوف أمام عدسات المصورين. ولا حتى بأي تغيير إداري حدث سنة 2006 أو ما بعد. والأكثر من ذلك، لا علاقة له بالمنافسة التي اشتدت بعد ذلك التاريخ عندما انطلق مهرجانان كبيران آخران («أبوظبي» و«الدوحة») واستمر وجود مهرجان عربي كبير آخر، ولو في الغرب الأقصى من العالم العربي (مراكش). ما له علاقة به هو حب السينما والمعرفة بها. جانبان يؤلفان شعار الدورة الحالية «10 سنوات من الشغف»، وهما من الأهمية، بحيث إن امتزاجهما والتحامهما مع الاستعانة منذ البداية بأهل الخبرة ميز العقد الماضي، ومن المرجح تمييز العقد الحاضر. خلال العقد الماضي، واكب المهرجان السينما العربية وأثراها. إذا ما كان هناك مهرجان عربي واحد ترك انطباعا فعليا وإيجابيا في آن على ساحة السينما العربية، كفن وكصناعة، خلال السنوات الـ20 الأخيرة، فهو مهرجان دبي. ليس الوحيد الذي وهب الحياة للسينمات العربية، عبر صناديق دعم ومؤسسات رعاية وورش عمل وتسويق إلخ.. لكنه أكثرها إلى اليوم فعلا وتأثيرا. أكثرها حضورا وأكبرها حجما وأكثرها استقطابا أيضا، مع مائة فيلم عربي معروض في هذه الدورة. * ثورة هادرة بصمت أحد أهم معالم هذه المواكبة القدرة على ملاحظة تطور أو انحسار سينما عربية معينة. وما تطرحه الدورة الحالية في هذا الإطار بالغ الأهمية. والملامح الأولى ارتسمت بالفعل في اليوم الأول من العروض، أول من أمس (السبت)، عبر ثلاثة أفلام مصرية جديدة لافتة. لم تنجز السينما التسجيلية في مصر، أو في الدول التي مرت أو ما زالت تمر بمهب المتغيرات السياسية والأمنية، ما أنجزته السينما الروائية، حين يأتي الحديث عن الأعمال المصورة سينمائيا حول ما سُمي سريعا بـ«ثورات الربيع». لم تبتكر أعمالا لم يسبق للمشاهد العربي أو العالمي أن رآها من قبل على صفحات الإنترنت أو شاشات المحطات التلفزيونية. الثورة هي الثورة، والقتل هو القتل، والدمار هو ذاته، وصيحات الغضب تشق الطرق والساحات والميادين هي في النهاية واحدة. الفيلم التسجيلي سريعا ما حاول تأريخ اللحظة وتخزينها على ديسك «الديجيتال»، وفعل ذلك، وبهذا «وثق» الحدث كما عاشه المخرج ومئات ملايين البشر حول العالم. لكن الفيلم التسجيلي الباحث والمحلل والجيد في كيفيتي البحث والتحليل لم يصل إلى الشاشات بعد. ما وصل هو الفيلم الروائي وبإبداع شديد. بروح تهدر بالحداثة وبنفس نابض من دون أن يكون لاهثا أو مقطوعا. لم يكن على الأفلام المصرية، تحديدا، التي شوهدت في أبوظبي قبل شهرين، وتلك التي تُشاهد هنا في مهرجان دبي، أن ترفع لافتات. لم يكن لديها سبب في أن تطلق صرخات ثورية. كل ما أقدمت عليه هو أنها تماثلت وأمواج المياه في أيام بديعة. هادئة ومتواصلة وجميلة. في الوقت ذاته كانت صارخة من دون رفع الصوت. في الواقع من دون صوت على الإطلاق في فيلم «فرش وغطا» لأحمد عبد الله. ولم يكن عليها حتى الحديث عن الثورة التي تهدر في الشارع، كما في «فيلا 69». هذان عُرضا في مهرجان أبوظبي وفي مهرجان دبي ما هو أكثر تأكيدا على أن حالة فريدة من حالات التاريخ السينمائي تقع بينما نتنفس هواء اليوم؛ سينما مصرية مختلفة المشارب والمصادر والأساليب والأجيال يجري عرضها أمام ألوف الأعين المترقبة، فإذا بها تنقل واقعا جديدا غير مألوف؛ فجأة بدا كما لو أن السينما المصرية البديلة للسائد تولد من جديد وبغزارة بينما السينما السائدة تبحث عن مشاهدين محليين يمنحونها سبب الوجود. ليس أن السينما البديلة في وارد احتلال المقعد كاملا، لكنها مطروحة اليوم أمام جيل جديد من المشاهدين في مصر والعالم العربي لكي تستعيد حضور السينما المصرية في أوج حياتها السابقة. هذا يجري بالتلاؤم مع واقع اقتصادي صعب. في وقت يكتفي المنتجون الداعمون للسينما السائدة بممارسة لعبة الانتظار، يهب منتجون آخرون لتوفير أعمال فريدة. ليست جميعا من مستوى واحد، ولا يهم أن تكون، لكنها تأتي بسبب مباشر من التغييرات التي تمر بها مصر هذه الأيام. بكلمات أخرى: ليست هذه الأفلام نتاجا مناهضا للظروف الصعبة، بل هي نتاج في صلب هذه الظروف الصعبة. أفلام مخلصة لأفكارها ولمفاهيمها ولدور السينما الإبداعي. والمرء لا يذكر متى كانت آخر مرة شاهد فيها مثل هذا الكم الشبابي (حتى بالنسبة لمخرجين تجاوزوا السن المفترضة للشباب) في آن واحد. * تأثير الممثل هناك مشهد في فيلم المخرج محمد خان الجديد «فتاة المصنع» يلخص بعض ما سبق قوله: ياسمين رئيس، الممثلة الأولى في هذا الفيلم، تحاول الاتصال بمن تحب (هاني عادل)، وهو لا يرد على اتصالاتها لأنه حب من طرف واحد. تخرج من مكانها إلى الشارع العام، فإذا بمظاهرة تمر فيه، مع لافتات وأصوات مرفوعة. لكنها ليست في هذا الوارد (كما لم تكن الحال السياسية في بال بطلي فيلم ناغيزا أوشيما «إمبراطورية الحواس» 1976، في مشهد قريب مما يرد هنا). ما يحدث حولها لا يهمها وليس في الفيلم إشارة واحدة له. بطلة الفيلم تستدير في طريق جانبي، وتمر المظاهرة خلفها، وهي ما زالت مشغولة التفكير بمن تحب، ولماذا لا يرد على اتصالاتها. «فتاة المصنع» فيلم هادر، على الرغم من ذلك، بحياة اليوم. المحجبات والشارع المفضي إلى علاقات عاطفية متشابكة، والضغط الاجتماعي الذي تعيشه المرأة تحت هيمنة المجتمع بنسائه ورجاله، مما يجعل فتاة بريئة من كل ذنب تجد نفسها وأهلها يدفعون ثمن شائعة لا صحة لها. لقد اتهمت بطلة الفيلم بأنها حامل بينما هي ما زالت عذراء. والسيناريو الذي كتبته جيدا وسام سليمان (زوجة المخرج) يوزع التبعات في أماكنها الصحيحة؛ فإذا بها تشمل مفاهيم وتقاليد وإرثا على هذه الثورة التي نشاهدها من بعيد. محمد خان هنا يتعامل مع موضوع عصري بلغته الفنية الواقعية والطبيعية. سألته عما إذا كان ابتعاده عن استخدام اللقطات القريبة للوجوه (باستثناء القليل جدا منها) له علاقة بأنه يتعامل هنا مع ممثلين في معظمهم جدد، فقال: «لا. أردت للفيلم أن يتحلى بسلاسة طبيعية. هذا ليس ما أردته في أفلام سابقة لي». بالمقارنة مع «زوجة رجل مهم» (مع ميرفت أمين وأحمد زكي) و«أحلام هند وكاميليا» (أحمد زكي وعايدة رياض ونجلاء فتحي) و«عودة مواطن» (يحيى الفخراني وكمّ كبير من الممثلين المعروفين) استفاد من ذلك الوجود. الممثل الذي تعرف من هو يمكن أن يؤثر على نحو أو آخر على العمل الذي يشترك به. الممثل الجديد، كما حال معظم الممثلين هنا، يحتاج إلى طريقة أخرى للتعامل، خصوصا إذا ما كان الفيلم يحمل ذلك النفس التجديدي الذي يحمله «فتاة المصنع». ياسمين رئيس جيدة لغاية، ولو أنها ليست الوحيدة التي تجذب الاهتمام هنا، ولا في أفلام أخرى شوهدت يوم أول من أمس. أحدها «أوضة الفيران» (غرفة الفئران): فيلم اجتماعي آخر يقع بعيدا عما حدث في الشارع المصري ولا يزال، لكنه نابض بحسها أيضا كونه من نتاجه. * حكايات عدة إنه فيلم إسكندراني مائة في المائة من حيث إن كل مخرجيه من تلك المدينة وهم أنتجوه وأخرجوه في ثلاث سنوات ونصف السنة، واستكملوه ليشهد عرضه العالمي الأول هنا. عدد صانعي هذا الفيلم ستة، وهم نرمين سالم ومحمد زيدان ومحمد الحديدي ومي زايد وهند بكر وأحمد مجدي مرسي. كيف تسنى لهؤلاء تحقيق فيلم ذي قصة واحدة (وليس ستة أفلام في فيلم كما جرت العادة في أفلام يشترك أكثر من فرد في تحقيقها) أمر من المثير معرفته. لكن لا تفاوت في المستويات يمكن الحديث فيه، ولا خروج عن المعالجة الكلية للعمل، كما لو كانت من تحقيق فرد واحد. «أوضة الفيران» يحتوي على عدة قصص. كل لها شخصياتها لكنها تسير في ركب حياة واحدة، ويجري الانتقال بينها بلا عثرات أو إخفاقات: امرأة تستيقظ ليلا لتكتشف أن زوجها مات بجانبها فوق السرير. كلما عدنا إليها نجدها استبدلت بوحدتها السهر طوال الليل ناظرة بفضول إلى شخصيات الطريق القليلة من نافذتها. رجل مسن يرتدي بيجاما مخططة يقف على قارعة طريق مزدحم بالسيارات وينظر دائما إلى البحر في الجانب الآخر من الطريق، كما لو كان يود الوصول إليه، أو كما لو كان ينتظر عودة مهاجر. خلفه شاب يبيع الصحف ويثير هذا الرجل الغامض الواقف طوال النهار حيرته. فتاة تمضي يومها ذاك في صالون الشعر (ثم في ارتداء ثياب الزفاف) مودعة حقبة حياتها الأولى إلى أخرى تنتظرها بأسئلة كبيرة. فتاة صغيرة تلعب وتقرأ وتراقب حياة الكبار حولها. شاب يصحب والده الصحافي الآيل إلى الموت بعدما انتشر السرطان في جسمه، ويسعى لفهم الوضع المنتظر منه حيال الحدث. عائلة صغيرة تستعد لقيام أحد أفرادها بالرحيل بعيدا. وامرأة شابة تلتقي فجأة بصديقة قديمة وتحاول إعادة التواصل معها. هذه الحكايات والشخصيات لا رابط دراميا بينها في الواقع. هي مجرد نقاط فوق خطوط ممتدة على نحو متوازٍ تجتمع في المكان والزمان فقط وفي إطار الفيلم الواحد. ما قام به المخرجون الستة - على ما يبدو - هو قيام كل منهم بتحقيق جزء من التشكيلة العامة. ما نجحوا به هو انصهار أساليبهم الخاصة، بحيث لم يعد هناك أي تفاوت أو تمايز، وبالتالي ليس هناك أي داع للمقارنة بين أسلوب أي منهم، ولا إمكانية لذلك في الأصل. «أوضة الفيران» نموذج آخر لسينما مستقلة تماما وناجحة في ذلك. عمل فني جدير بالدراسة والاهتمام والإعجاب. الأمر نفسه يكاد ينطبق على الفيلم المصري الثالث المعروض هنا، لولا أن المخرج أفسد طبخته في النصف الثاني منه. الفيلم هو «المعدية» لمخرج أول مرة اسمه عطية أمين (كان سابقا ما صمم مقدمة فيلم محمد خان «شقة مصر الجديدة»)، وهو يبدأ بمشاهد جميلة لمنطقة «بحيرات دهب» وللنيل الذي يفصل كما يوحد بين شطآنها. حكايته تدور حول ثلاثة أصدقاء، أحدهم، صلاح (محمد علي) عائد من العمل في الخارج لكي يزور زوجته وطفله. لكن عودته تثير أزمات عوض حلها. يخفق في التعبير عن عاطفته حيال زوجته (إيحاء بفشل مضاجعته لها) ويحاول دفع صديقه حسين (هاني عادل مرة أخرى) للتخلي عن حبه لشقيقته لأنه ينوي تزويجها من شخص يرغب بها ويستطيع تأمين متطلبات الحياة الأسرية على عكس حسين الذي يعمل حارسا براتب يكاد لا يكفيه هو وحده. الصديق الثالث هو رجل لديه «مليون سبب» للتحول إلى تاجر مخدرات وأعمال غير مشروعة. من الثلاثة، ومن شخصية شقيقة صلاح (درة زروق) يقدم المخرج على تكوين متابعة آسرة في أجوائها لشخصيات قلما نلتقي بها، لكننا نعلم بوجودها كونها جزءا من الموزاييك الاجتماعي الذي نعيشه أو نعايشه. لكن ما إن يبدأ نقر على الواقع بتكوين بصري جيد وبسرد جذاب بتصويره وإضاءة مشاهده وبتقديم مفعم للأمكنة وللشخصيات، حتى يقع بعد قليل ضحية حوارات مكتوبة بجمود، ثم بقيام السيناريو (وضعه محمد رفعت) بالانحدار صوب الميلودراما واستخدام المفاصل التقليدية فيما تحاول التعبير عنه. ومع أن فيلم محمد خان يستخدم الغناء والشعر (احتفاء بالفن المصري وبسعاد حسني) إلا أنه يتوقف عند هذا الحد ولا يوظفه لجذب جمهور ينشد الطرب أو ذرف الدمع. هذا لا يحدث مع «المعدية»، كونه يهوي إلى أساليب تعبير من تلك السهلة التي تصاحبها أغنية طويلة ومعالجة حكواتية متعرجة صوب نهاية سعيدة، ولو كانت غير مسبوقة بدواعٍ درامية حقيقية. على الرغم من ذلك، يمر الفيلم في معظمه عاكسا لهمه وهم المخرج ورغبته في طرح الواقع. مشاهده جيدة الصنع من حيث تنفيذها وأطرها الفنية واهتمامه بالشخصيات الرجالية «بين». في حين أن هناك شخصية رجالية رئيسة واحدة في «فتاة المصنع»، وفي حين أن «أوضة الفيران» قائم على اللامركزية، فإن حكاية «المعدية» توفر غوصا جيدا في الشخصيات الذكورية الحاضرة بقوة، ليس فقط بفضل تقديمها على هذا النحو، بل بفضل ممثليها أيضا.

مشاركة :