الإنسان الكاميرا.. التصوير كأسلوب حياة

  • 4/14/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

لم يعد الشغف بالتصوير مقتصراً على الذين يُعرفون بفناني التصوير الضوئي أو الذين يمتهنون هذا المجال، فاليوم نحمل هواتف نقّالة ذكية ومزوّدة بكاميرا، وتكاد تصبح هذه الأجهزة جزءاً منا، فهي أداة يقوم أي شخص من خلالها بتوثيق اللحظة في صورة ثابتة أو مقطع مرئي، وهناك من يلتقط بفطرته صوراً في غاية الروعة والإبداع. وقد فُتحت أبوابٌ لمجال التصوير بالهاتف، سواء كان ذلك فنياً حيث تحظى الصور بمسابقات مخصصة لها، أو بمحاور ضمن مسابقات كبيرة، أو كان مهنياً، إذ أضحى الكثير من الناس يعملون على إنشاء وإخراج محتوى من الصور والفيديو وتعديله رقمياً بشكل فوري بهدف نشره على شبكات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية، وحتى لأغراض الطباعة. كل هذا ضمن الهاتف ذاته دون الحاجة إلى الرجوع للكمبيوترات وبرامجها، وبهذا سحبت الهواتف الذكيةُ الأضواءَ من أجهزة الكاميرا في بعض الاستخدامات والمجالات، وأثبتت كفاءتها إلى حد معقول. ولأنها تُلازم المرء أينما ذهب فإنها تجعل منه “الإنسان الكاميرا”. وتراودنا الأسئلة كلّما قرأنا سير الأعلام والتراجم في فواتح الكتب القديمة أو في فهارس الأسماء التي تضم شخصيات عاشت قبل 600 عامٍ، وما تركه لنا هؤلاء من إرث تعددت جوانبه. قائمة تلك الأسماء طويلة، لكن أكثرها تأثيراً العالم الموسوعي الذي اختص في علوم البصريات والتصوير الضوئي، الحسن بن الهيثم الذي ترك لنا نتاجه في الرياضيات والبصريات والفيزياء وعلم الفلك والهندسة وطب الأعين والفلسفة العلمية والإدراك البصري. واعتماداً على أبحاث ومخطوطات ابن الهيثم طوّر ليوناردو دافينشي فكرة الغرفة المظلمة التي كتب عنها ابن الهيثم، ومنحها الاسم ذاتها “قمرة” أي حجرة تصوير، وهي الكلمة العربية التي صارت مع الوقت “كاميرا”، فأنشأ دافنشي الغرفة المظلمة في عام 1519. نمط حديث من الإبصار ◙ التصوير بالمسيّرات وكاميرات الأبعاد البانورامية وكاميرات الملاعب الرياضية الفائقة بات يتقدّم بسرعة فاقت التوقعات ◙ التصوير بالمسيّرات وكاميرات الأبعاد البانورامية وكاميرات الملاعب الرياضية الفائقة بات يتقدّم بسرعة فاقت التوقعات قدرة العقل البشري على تقديم الكثير في العديد من المجالات هي قدرة مثيرة حقاً؛ فكيف بنا إن تحدثنا عن تشعبات مجالٍ واحد فقط، كفن التصوير الضوئي الذي انطلق نمطه الحديث بين العامين 1822 و1825 حين نجحت محاولات إنتاج أول صورة ضوئية على يد المخترع الفرنسي نيسيفور نييبس، تلك الصورة التي استغرق التقاطها 8 ساعات من التعريض. لكن من منح الصورة اسمها الذي نعرفه الآن “فوتوغراف” هو السير جون هيرشل مشتقاً إياها من اللاتينية وتعني الكتابة أو الرسم بالضوء. ومع الرحالة والمستشرقين وصل التصوير إلى المنطقة العربية، وكانت أول صورة في بلد عربي صورة فوتوغرافية بحضور محمد علي باشا في الإسكندرية، وذلك في خريف 1839. وبعدها بدأ عصرٌ جديد في العلاقة بيننا وبين الصورة. وتم تصوير معالم الشرق وآثاره، وسافرت الصور التي تم التقاطها إلى الغرب فأغرت كثيرين بالسفر إلى العراق ومصر وسوريا والمغرب والتقاط المزيد من فتنة الشرق وتثبيتها في لوحات فوتوغرافية. وكان من أبرز من وقع في هذا الغرام الكاتب والمصور الفرنسي أدريان بونفيس الذي قرّر العيش في بيروت مع أسرته في أواسط القرن التاسع عشر. كل ذلك قبل أن يصبح الذهاب إلى المصورين في أستوديوهاتهم الخاصة مهمة عرفتها كل أسرة، بعد البدء بتوثيق السجلات وبيانات المواطنين وبطاقات التعريف وشهادات القيادة. ولكن على الجانب الآخر من الكوكب كان التصوير يتطور بقوة خاصة حين ظهرت الأفلام المرنة على يد جورج استيمان، ليكمل الأخوان لويس وأوغست لوميير عالم التصوير مبكراً بإدخال الألوان عبر الأتوكروم عام 1907. صورة الأرض ◙ نمط الحياة اليوم يكاد يكون مُصممًا لأولئك الذين يغردون خارج سرب نظام التعليم التقليدي فيبدعون سواء بالتصوير الاحترافي أو بالتقاط السيلفي بلمسة واحدة (الصور من السوشال ميديا) ◙ نمط الحياة اليوم يكاد يكون مُصممًا لأولئك الذين يغردون خارج سرب نظام التعليم التقليدي فيبدعون سواء بالتصوير الاحترافي أو بالتقاط السيلفي بلمسة واحدة (الصور من السوشال ميديا) التقطت أول صورة للأرض من على سطح القمر عام 1968، ومنذ ذلك التاريخ والإنسان يفكّر في الغرض من التصوير بعد أن حقق مثل هذا الإنجاز العظيم. تعددت الدوافع والأغراض من فعل التصوير، وفي الأغلب كان ذلك بدافع التوثيق، كتصوير الشخصيات أو المدن والمعالم، أو حتى المناسبات والفعاليات المهمة. وكان الأمر مكلفاً من ناحية الوقت والمادة، لكن مع مرور الوقت تطورت آلات التصوير، وبالتوازي مع ذلك تطورت وتعدّدت الأغراض. ودأب المصورون على تصوير العديد من المواضيع وتصنيفها في محاور رئيسية ثم محاور فرعية، من أبرزها اليوم تصوير الشخصيات (البورتريه)، والتصوير الصُّحفي، وتصوير المدن وحياة الشارع وحياة الناس، وتصوير الفعاليات والحياة الفطرية أو الحياة البرية والحيوانات والطير، وتصوير المناظر الطبيعية. وهناك أيضاً التصوير المِجهري أو المُقرّب، وتصوير البيئة تحت المائية، والتصوير المعماري، وكذلك تصوير الحياة الصامتة، والأطعمة، والأزياء، والمنتجات، والتصوير الطبي، والتصوير المحيطي بـ360 درجة، وحتى تصوير مسرح الجريمة، وغيرها من المحاور. ومما يُلاحظ في مدارس التصوير اليوم أن كوادر التعليم يحملون المصورين الجدد على اختيار محور واحد، والتركيز عليه بعد تعلم الأساسيات، بل وفي الكثير من الأحيان يتبنّون نفس النمط والأسلوب، فتكون النتائج متشابهة إلى حدٍ بعيد. وليس الأمر بغريب، فهو امتداد لأنظمة ومناهج التدريس الرسمية والإلزامية، حيث نجد المدرسين يطلبون من التلاميذ الصغار أن يذكر كل منهم المهنة التي يرغب في امتهانها مستقبلا، وهذا ليس منحاً لحرية الاختيار، بل هو حَصرٌ وإرغام للتلميذ على اختيار أمر واحد فقط. والسؤال الذي يُطرح دائما: هل على المصور أن يتخصص في محور ما، أم عليه أن يتوسع في اختيار المحاور؟ إن أفضل إجابة عن هذا السؤال هي تقديم مثال الموسيقيّ؛ إذ بإمكان عازف آلة الغيتار أن يستخدم الأداة نفسها لعزف الألحان الكلاسيكية، الفلامنكو والجاز والبلوز والروك والميتال والكاونتري والبوب وغيرها، لأنه عملياً بإمكانه التدرب على أسلوب أي نمط وعزف لحنٍ منه، والمسألة هنا هي مسألة ممارسة، لكن يبقى هناك نمط أو اثنان أقرب إلى قلبه فيُبدع في ما يحب أكثر من غيره، وإن كان قادراً عملياً على عزف بقية الأنماط، فللبعض منها خصائص مشتركة كالضرب بالريشة أو الأصابع أو جُمل موسيقية مشتركة. وعلى غرار ذلك بإمكان المصور أن يلتقط صوراً من محاور مختلفة، لكن ثمة ما يميل قلبه إليه، فيهتم به ويمضي وقتاً أطول في ممارسته ويتغذى بصرياً بمشاهدة وقراءة أعمال من هذا المحور، وبالتالي يكون نتاجه مثمرا ونوعيا وأكثر إتقانا مقارنة بباقي المحاور، لكن ذلك لا يعني أن ليس بمقدوره الخوض في أكثرها. وفي عملنا نحثّ المصورين باستمرار على الخروج عن إطار المناهج التقليدية في أي شيء يتعلمونه بعد أن يتشبّعوا به، وأن ينتقلوا إلى مرحلة استسقاء المعلومة والخبرة من أماكن أخرى، خصوصاً وأن شبكة الإنترنت غزيرة بالمحتوى الذي يقدمه الكثير من المُعدّين، وطيفٌ واسع منهم يقدم المعلومات بأسلوبه ولمسته، وهذا يُثري مرجعية المصور وينمّي فكره ووعيه. وحين يركّز المصور على محور واحد غالبا ما يصل إلى مرحلة يكُرّر فيها ذاته، وستبدو أعماله متشابهة وسيفتقد الإبداع في صوره، بَيد أن استكشاف أنماطٍ أخرى يساعده على إيجاد أفكارٍ وتقنياتٍ وأساليب جديدة في محوره المفضّل. وعلى صعيد آخر غالبا ما تُلقي محددات السوق واحتياجاتها بظلالها على نتائج أعمال فئة الذين يمتهنون التصوير، لذلك ستفتقد صورهم الروح الفنية مقارنةً بالذين يصورون بدافع الشغف، وقد نجد فئة من المصورين المهنيين شغوفة بالفن، وهي الفئة التي تقوم بالتجديد الدائم وتقديم أفكار جديدة في الفضاء المهني، ثم يقوم الآخرون بتقليدها. استكشاف محاور جديدة ◙ التصوير بالمسيّرات ◙ التصوير بالمسيّرات الأمر ليس معقداً جداً، فعلى سبيل المثال مصورو الحياة الفطرية أو الحياة البرية يقضون جُلّ أوقاتهم في الطبيعة لتصوير الحيوانات، وبالمعدات ذاتها بإمكانهم تصوير الطير أو تصوير المشاهد الطبيعية والنباتات بدلاً من التركيز فقط على الحيوانات البرية، ولا مانع في أن يُبدّل المصور عدسته الأعرض بعدسته بعيدة المدى، ويصور حياة الشارع في المدن والقرى التي يمر بها أثناء السفر إلى بلدانٍ مختلفة كما يفعل أغلب المصورين، ففي الشارع ثمة نبض وإيقاع بين سكون المباني وحركة الحياة، ووجوه الناس وسلوك الكائنات الأليفة والأنعام، هي مسألة تجريب شيء جديد وإطلاق العنان للمخيلة. إن هذا التنويع في المواضيع يُغذي خيال المصور، ففي بعض الأنماط يتطلب الأمر الصبر والتريث لاقتناص اللحظة المناسبة لتصوير مشهد مخصوص، بينما في غيرها يحتاج إلى اليقظة والتصوير في أجزاء من الثانية والتنبّه إلى كل ما يدور حوله وليس فقط ما يحدث أمامه، كل هذا يُزكّي الحدس وسرعة البديهة. هذا بالإضافة إلى تنويع الأساليب في الصورة من أكثرها صخباً وغنى بالألوان والعناصر إلى التي يطغى عليها طابع التبسيط والتجريد واعتماد التصوير بالأبيض والأسود، وكل ما بين ذلك، إلى جانب إتقان مهارات المعالجة الرقمية التي تُعطي في بعض الأحيان بُعداً جديداً للصورة، خصوصاً في نقل اللقطة من مشهد عادي ومألوف إلى دراميٍ أقرب إلى الخيال لكي تتميز الصورة. لكن لا يقف الأمر عند هذا الحد، ففي نهاية المطاف الصور هي قصة ورسالة، وعلى المصور أن يبني خلفية ثقافية ويجمع المعلومات حول الموضوع الذي يصوره، فيتوجب عليه تذوق الموسيقى بعدة أنماط، وقراءة الأدب والشعر، والاطلاع على التاريخ الإنساني والحضاري والفلسفي، ومعاني الرموز، وتاريخ الفن ومدارسه وأساليبه وقواعده، التي ما يلبث أن يتقنها حتى يقوم بكسرها، وأن يقرأ تجارب ونصائح المصورين الآخرين، عندها تبدأ ملامح أسلوبه الشخصي بالظهور، خصوصاً وأنه قد تَعلَّم كيفيّة التَعلُّم، وأدرك من أين تؤكل الكتف، وكل ما ذكرناه آنفاً لا يتحقق إلا بالشغف والممارسة. نمط الحياة اليوم يكاد يكون مُصمماً للناس. لكن الذات البشرية لا تختلف عن تلك التي مكّنت الكثيرين في السابق، ممن ذكرناهم في بداية المقال والذين يغردون خارج السرب، من التألق والإبداع سواء بالتصوير الاحترافي أو بالتقاط السيلفي بلمسة واحدة. وتشتكي شركات الكاميرات الكبرى من أن مبيعات منتجاتها من الكاميرات مهما كانت متطورة أخذت تنحسر تزامنا مع تطور الهواتف الذكية، ويقول المصورون المحترفون إن الهاتف الذكي دمّر سوق الكاميرات العادية. وبات التصوير بالمسيّرات وكاميرات الأبعاد البانورامية وكاميرات الملاعب الرياضية الفائقة يتقدّم بسرعة فاقت التوقعات.

مشاركة :