النص هو أساس العمل الدرامي، فبلا نص لا وجود لدراما، ورغم ذلك فإن المؤلفين صاروا في آخر اهتمامات منتجي الدراما العربية الذين روج أغلبهم لنجومية الممثلين ذوي الحضور الجمالي الشكلي خاصة، وهمشوا كتّاب السيناريو، معتمدين على ورشات كتابة أو غيرها من المسميات التي تضمن تكلفة إنتاجية أقل، لكن هل تنجح في تحقيق عمل متوازن وجيد؟ سقى الله الزمان الذي كان فيه المتفرج العربي يقبل على العمل الفني أو يدبر عنه لمجرد قراءة اسم المؤلف على البوستر السينمائي والمسرحي أو الشارة التلفزيونية أو حتى الاستماع إلى الجينيريك الإذاعي. ولّى وانتهى عصر نجومية الكاتب والمعد في الأعمال الدرامية على غرار نجيب محفوظ ويوسف السباعي وإحسان عبدالقدوس في مصر أو نهاد قلعي ومحمد الماغوط وحكمت محسن في سوريا أو علي اللواتي في تونس، عبدالله الوابلي في السعودية وعبدالحسين عبدالرضا في الكويت، وغير هؤلاء من الذين كانوا يمثلون نجوما حقيقيين ويقصد الجمهور أعمالهم وهو مغمض العينين. موت المؤلف بدأت نجومية المؤلف في الدراما العربية بالأفول إلى حد التلاشي ليخلفها فريق إعداد بقيادة المخرج وتكليف من شركة الإنتاج لتلقي نجومية الممثل بثقلها إلى حد الإطلالة برأسه كنجم أول في الإنتاج التلفزيوني والسينمائي على وجه التحديد. وبدأ الكاتب يأخذ دورا ثانويا تاركا مكانه للممثل والمخرج وشركات الربح والتسويق التي تكتفي بالإعداد شبه الجماعي كيفما اتفق، ووفق وصفة جاهزة تعتمد النسج على منوال نسخة جاهزة ومسبوقة وناجحة جماهيريا. الكل هنا يشارك في قتل المؤلف بل ويمشي في جنازته منتحبا وباكيا على غيابه بمن فيهم المؤلف ذاته، الذي يشتكي بدوره، من غياب المنافس والمثل والقدوة. “موت المؤلف” هنا ليس بالنموذج الذي طرحه النقاد البنيويون والتفكيكيون الفرنسيون من أمثال جاك دريدا وميشيل فوكو، بل شركات الإنتاج والربح الكسول والسريع من تلك المستهترة بذائقة المتلقي. نجومية المؤلف في الدراما العربية أفلت إلى حد التلاشي ليخلفها فريق إعداد بقيادة المخرج وتكليف من المنتج الذي يقف وراء غزارة الإنتاج وضحالة المستوى الفني هو غياب الكاتب الذي ترك مكانه للذي يدعي القيام بدوره بدلا عنه أو حتى يشركه في الكتابة حسب الطلب واستجابة لإرادة شركات الإنتاج التي تقرأ أوراقا في العقود بدل أوراق السيناريو. المشكلة إذن، هي مادية تجارية بحتة، لذلك أقدم عديمو الموهبة على الكتابة الدرامية وأحجم عنها المبدعون الحقيقيون، والذين هم بطبيعتهم، كسالى ونادرون أمام هذه الماكينة الضخمة والنهمة في الإنتاج والتسويق الفضائي. والذي زاد من “وحشية الإنتاج الدرامي” ورداءته هو ظهور منصات البث الإلكتروني الرقمي والتهامها لكل أنواع الكتابة حسب الطلب: تراجيديا، كوميديا، حروب، مطاردات، خيال علمي، ألغاز بوليسية، مسلسلات تاريخية.. إلخ.. إلخ. وبالعودة إلى أزمة النص في الدراما العربية، فإن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة بطبيعة الحال، وذلك في غياب معايير نقدية صريحة وصارمة أي وبالمختصر المفيد: اختلط الحابل بالنابل ولم نعد نعرف الغث من السمين. أمر آخر تنبغي الإشارة إليه في خضم الحديث عن ضحالة النصوص الدرامية، وهو أن الرواية التي تُعدّ منبع الإنتاج الدرامي وخزانه الاحتياطي قد وجدت انتعاشتها في مسارات تسويقية أخرى على غرار تعدد الجوائز وكثرتها في معارض الكتاب وغيرها، ولم تعد تعبأ بذلك “الجهد العضلي” الذي يحوّلها إلى دراما تلفزيونية استنزافية. هذا ناهيك عن البون الشاسع بين قارئ الرواية ومشاهد التلفزيون، فالأول يبحث عن كل ما هو ذهني وملتبس ومعقد، بينما يركن الثاني إلى كل ما هو سهل وفي المتناول ومن الممكن هضمه باسترخاء. كل شركات الإنتاج تنفر من الصعب والمعقد والتجريبي بما في ذلك الممثلون والفنيون والجهات التي تسعى للبث دون شوشرة أو مساءلة ثم إن الكتاب الجيدين هم قليلون في كل زمان ومكان. وفوق كل ذلك، يجب ألاّ ننسى نسبة التهافت على الكتابة الدرامية لدى جيل من الشباب عديمي الخبرة، لما توفره من ربح سريع دون جهود مضنية في التجربة الحياتية والثقافة الموسوعية التي هي شرط أساسي في الكتابة الدرامية.. القاعدة تقول إن كل مجال يكثر فيه الاستسهال، تكثر فيه الرداءة والركاكة. الأزمة في الورق الكوميديا.. طبق فاتر الطعم ولا جديد في مكوناته الكوميديا.. طبق فاتر الطعم ولا جديد في مكوناته لنأخذ المجال الكوميدي في الإنتاج التلفزيوني، على وجه الدقة والتحديد، باعتباره الأكثر طلبا لدى الجمهور العريض، فإنه أشد الأجناس الدرامية بؤسا، وذلك لصعوبته في الكتابة اليومية التي تتطلب جهدا مضاعفا وموهبة استثنائية. وفي هذا المجال يقول الناقد التونسي أحمد قاسمي إن المشهد التمثيلي التونسي يعيش مفارقة محيّرة، فالسينما التونسية تعيش فترة ازدهار على الأقل على مستوى وفرة الإنتاج وتنويع التجارب والأنماط السينمائية، أما المشهد المسرحي فكثيرا ما مَثّل نقطة مضيئة في الثقافة التونسية، وبالمقابل، يقول الناقد التونسي “غدا هذا المشهد يشكو من ضعف كبير كلما ولّى وجهته شطر التلفزيون، وكلما طرق باب الكوميديا بشكل خاص، رغم مكانتها الفضلى ضمن أولويات المشاهد التونسي خلال شهر رمضان”. يحيل هذا الكلام إلى سبب موضوعي يقف وراء شح النصوص ـ الكوميدية على وجه أخص ـ وهي أن كتابة ثلاثين حلقة مثلا، من الكوميديا لهي جهد استثنائي لا يقوى عليه إلا الموهوبون من أمثال السوري ياسر العظمة، في سلسلة مرايا التي تظهر رمضان كل عام، ومع ذلك، تعاني أحيانا من الترهل والتكرار. هذا عن الكوميديا التي أخذت في السنوات الأخيرة مكان المسلسلات التاريخية في البرمجة الرمضانية، وصارت مثل طبق لا يمكن الاستغناء عنه على مائدة رمضان، لكنه طبق خال من الدسم، فاتر الطعم ولا جديد في مكوناته سوى النكت السوقية السمجة. الذي يقف وراء غزارة الإنتاج وضحالة المستوى الفني هو غياب الكاتب الذي ترك مكانه للذي يدّعي القيام بدوره أما الدراما الاجتماعية فإن لم تجنح نحو الجريمة والمطاردات، فإنها لم تستفد من الانفتاح الرقابي ولم تغنم سوى ببعض اللقطات المثيرات لحسناوات دون موهبة ودون قصة، والسبب واضح دائما: غياب النص الوازن. نلف ندور، نذهب يمينا وشمالا، والأزمة تبقى حبيسة الورق الذي منه تبنى أعمدة الدراما مهما أوغلنا في التجريب وملء الثغرات على مستوى الحكاية التي تمثل ذريعة كل شيء. يبدو أن تعدد منصات البث لن يحل الأزمة بل سيصعّبها أكثر لأن الكثرة تشجع على الرداءة وفق ثنائية العرض والطلب، لذلك نعود لنتحسّر على الماضي الذي كان فيه الإنتاج قليلا والجودة موجودة. لا نلوم الإمكانيات المادية فهي متوفّرة بل العقلية الجشعة والذهنية المتخلفة هي السبب في إقصاء الكاتب الجيد الذي من دونه لا نصنع عملا جيدا، أما الذين يتشدقون بعصر الصورة على حساب الكلمة فهم يشنقون الدراما بأمعاء آخر كاتب، وذلك وفق الاستعارة الماركسية حول الإقطاع ورجال الكنيسة.
مشاركة :