التصعيد المعلن من قبل وفد اللجنة العسكرية المشتركة “5+5” التابعة للقيادة العامة للجيش الوطني الليبي كان منتظرا، وسبقته جملة من الإشارات التي يبدو أن المهندس عبدالحميد الدبيبة لم يجد الوقت لالتقاطها، ولا حكومته كانت مهيأة للتعامل معها. اليوم هناك نذر انقسام حقيقي على الأرض ومخاوف جدية من العودة إلى مربع الفوضى، فقط لأن الدبيبة متمسك بالحكم، والبعثة الأممية تجامله، وسفراء العواصم الغربية يجارونه في مساعيه جزاء لما يبديه من استعداد دائم لتنفيذ رغبات وطلبات حكوماتهم. منذ أن نجح في تعطيل الانتخابات وتأجيلها إلى موعد غير مسمى، أصبح الدبيبة يعمل على العودة بليبيا إلى مربع الفوضى والانقسام بما يضمن له البقاء في منصبه كرئيس للحكومة لسنوات أخرى، ولتحقيق ذلك كان لا بد من التحالف مع الميليشيات والجماعات المسلحة والتطبيع الكامل مع القوات الأجنبية وشبكات الفساد وأثرياء الأزمة وأمراء الحرب، ومن إبداء الخضوع التام لتيار المفتي المقال الصادق الغرياني، والتظاهر بالسمع والطاعة للقوى الإقليمية والدولية المؤثرة في الملف الليبي، كما كان من الضروري أن يتقدم خطوة في اتجاه نسف ما كان قد تحقق خلال العامين الماضيين من نقاط إيجابية على الأرض بعرقلة اللجنة العسكرية المشتركة “5+5” التي تعتبر إلى حد الآن الجهة الأكثر جدية ودأبا ونجاحا، بل ويرى فيها الشعب رمزا للوطنية ومثالا متميزا للعسكرية الليبية المؤمنة بسيادة دولتها ومناعة بلدها ووحدة مجتمعها. في ظل ضعف المجلس الرئاسي وخاصة رئيسه القائد الأعلى للقوات المسلحة الدكتور محمد المنفي، الذي يوزع أغلب وقته بين مكتبه في طرابلس ومنزله في أثينا حيث تقيم أسرته، سعى الدبيبة إلى الاستحواذ على مهمة الإشراف على وفد اللجنة العسكرية انطلاقا من منصبه كوزير للدفاع، وعمل بكل ما في وسعه على تعطيل مسارات اللجنة سواء بالترهيب أو الترغيب، وأشار عليه مقربون منه بأن أفضل طريقة هي أن يراهن على إعادة تأزيم العلاقة مع قيادة الجيش في بنغازي بالاعتماد على الاستفزاز المباشر، واقترحوا عليه أن يأمر حكومته بالامتناع عن صرف رواتب العسكريين التابعين للقيادة العامة، وهو ما حدث فعلا، مقابل الرفع من مخصصات أمراء الحرب ورواتب الميليشيات. لقد كان المشهد استفزازيا بالفعل، فالجيش الذي يحرس ويؤمّن أكثر من 50 منشأة بين حقول وموانئ نفطية في شرق ووسط وجنوب البلاد، لا يجد أفراده ما يقضون به حوائج أسرهم وأطفالهم في شهر رمضان، بينما تذهب مئات الملايين من الدولارات للميليشيات والمرتزقة والقوات الأجنبية، وتقوم مواقع التواصل الاجتماعي بعرض شريط فيديو لأحد القيادات بوزارة الدفاع في طرابلس وهو يأمر بصرف أجور شهر مارس لعسكريي المنطقة الغربية، كنوع من التشفي من أفراد الجيش الذين لم يحصلوا على رواتبهم للشهر الرابع على التوالي. الدبيبة يعتقد أن موقفه المتصلّب من حفتر وقواته أفضل طريقة لنيل دعم الميليشيات وولاء الإسلام السياسي، ويرى، وهو الحالم بالبقاء في كرسي الحكم، أن أفضل ضمانة لذلك هو استمرار الصراع مع الشرق والجيش كانت حكومة الدبيبة قد تذرعت في بداية الأزمة بأن قيادة الجيش امتنعت عن مد وزارة المالية بقائمة اسمية بكوادرها، وردّت القيادة في مرحلة أولى بأن الأمر له صلة بسلامة وأمن العسكريين، وخاصة أسرهم، ومنها تلك التي تقيم في المنطقة الغربية، ولاسيما أن السلطات في طرابلس غير مفصولة عن منظومة الميليشيات التي تتحكم في وزارة الدفاع ورئاسة الأركان والمخابرات العامة والأمن الداخلي والخارجي وحتى فرق مكافحة الإرهاب، وأغلبها مخترق من الخارج، ولا تزال مستمرة في اتباع سياسة الإفلات من العقاب. قبل أكثر من أسبوع أعلن عن مقتل ثمانية مسلحين في اشتباكات وسط العاصمة بين ميليشيا تابعة للمجلس الرئاسي وأخرى تابعة لوزارة الداخلية، ولم تكلف الحكومة نفسها نشر بيان لتفسير الواقعة، كما لم ينتبه النائب العام إلى ضرورة فتح تحقيق. في الثاني والعشرين من مارس الماضي، طالب ممثلو القيادة العامة باللجنة العسكرية المشتركة “5+5” بصرف رواتب أفراد الجيش دون أي تأخير، ودعوا إلى عدم تدخل السياسيين في عمل اللجنة، وحذّروا من أن استمرار حكومة الدبيبة، في حجب ووقف صرف رواتب القوات المسلحة منذ ثلاثة أشهر وشهر رمضان على الأبواب، قد يترتب عليه انهيار المسار العسكري والعودة إلى مربع الفوضى والانقسام وعدم الاستقرار، ولفتوا إلى أن هذا كله تتحمل مسؤوليته وعواقبه الحكومة ورئيسها الدبيبة. ممثلو اللجنة العسكرية وجهوا البيان إلى الشعب الليبي وإلى بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا لكي “يكون الموقف واضحا تجاه هذه الحكومة وتصرفاتها غير المسؤولة”، وأكدوا على أن القيادة العامة قامت بتقديم جميع بيانات الرقم الوطني إلى هيئة الرقابة الإدارية والتي بدورها قامت بمراجعتها والتأكد من صحتها، كما تمت تسوية جميع المبالغ المصروفة في السابق مع مراقبة الخدمات المالية في بنغازي. لقد أطاح الجيش حجة الحكومة عندما تحامل على نفسه وقدم لائحة بهويات قواته إلى الرقابة الإدارية للتأكيد على أن الرواتب تذهب لأصحابها من الليبيين، لكن السيد الدبيبة كان منذ فترة قد غيّر أولوياته، وأصبح ما يهمه هو كسب ولاءات الميليشيات والقوات المتحركة على الأرض وخاصة في طرابلس ومصراتة والزاوية، والتيار الفبرايري الإقصائي، وقوى الإسلام السياسي ومنها جماعة الإخوان وتيار المفتي المقال وفلول الإرهاب المتحدرة من المنطقة الشرقية وأصحاب المصلحة من استمرار حالة الانقسام، وهؤلاء جميعا لا يؤمنون بالحل السياسي، ولا يرغبون في المصالحة الوطنية، ويرفضون توحيد المؤسسة العسكرية، ومعروفون بانتقاداتهم الواسعة للجنة العسكرية. خلاصة الكلام، هم جميعا ضد أن تستعيد الدولة هيبتها وسلطتها وسطوتها وسيادتها، ولا يرون مانعا من أن يستمر الوضع على حاله لسنوات أو عقود أخرى، وقد أدرك الدبيبة ذلك، فاتجه منذ توليه الحكم إلى توتير العلاقة مع قيادة الجيش ومع مجلس النواب، ومع سلطات حكومته في شرق وجنوب البلاد، ونجح في تأجيل الانتخابات، وجعل من المال العام أداته لخدمة مشروعه الاستحواذي على السلطة، ومن شعاراته وخطاباته وقراراته الشعبوية وسيلته للترويج لزعامة وهمية تتستر على نزعتي الفساد والاستبداد اللتين تحددان تطلعاته المستقبلية. أفشل الدبيبة جميع المسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية خدمة لمشاريعه الشخصية والأسرية، ووجد في ستيفاني ويليامز التي همشت دور البعثة الأممية من منطلق منصبها كمستشارة سياسية للأمين العام مكلفة بالملف الليبي وفي السفير الأميركي المبعوث الخاص ريتشارد نورلاند، وفي عدد من سفراء الدول الغربية الأخرى، مساعدين له على الاستمرار في تأبيد الأزمة، وكأنهم عثروا فيه على الشريك الذي يلائم مصالحهم. منذ أن نجح في تعطيل الانتخابات وتأجيلها إلى موعد غير مسمى، أصبح الدبيبة يعمل على العودة بليبيا إلى مربع الفوضى والانقسام بما يضمن له البقاء في منصبه ورغم أنه داس على التزاماته السابقة أمام ملتقى الحوار السياسي ومجلس النواب وتسبب في العبث بموعد الاستحقاق الانتخابي، إلا أنه وجد من يضفي عليه شرعية زائفة بما شجعه على التنكر لقرارات البرلمان بحجب الثقة عنه وتشكيل حكومة جديدة بدلا عن حكومته يرأسها فتحي باشاغا. النتيجة التي كانت منتظرة، وتحققت بالفعل، هي إعلان وفد اللجنة العسكرية المشتركة عن قيادة الجيش عن قرارها بتعليق نشاطها ضمنها، واتهامه الدبيبة بأنه المسؤول عن الوقوف وراء عرقلة عمل اللجنة بسبب ممارساته، رغم المكاسب التي حققتها، والتي تمثلت في التوقيع على وقف إطلاق النار والمحافظة على استمراره بما هيّأ الظروف لإنجاح المسار السياسي الذي انبثق عنه المجلس الرئاسي والحكومة، وتأمين جلسة منح الثقة للحكومة التي عقدت بمدينة سرت والبدء في إجراءات توحيد جهاز حرس المنشآت النفطية وتبادل المحتجزين وفتح وتأمين الطريق الساحلي وتأمين خط النهر الصناعي وفتح المجال الجوي وتهيئة الظروف لعقد اجتماعات القيادات العسكرية من الشرق والغرب في سرت، وإعداد خطة متكاملة لخروج المرتزقة. الوفد اتهم الحكومة بعدم الانصياع لقرارات مجلس النواب من خلال رفض التسليم لحكومة الاستقرار برئاسة باشاغا، إلى جانب نهب المال العام ونكث رئيسها عهود عدم ترشحه للانتخابات، فضلا عن الفساد المالي ونهب المال العام وهيمنة العائلة على قرارات الحكومة، وطلب من المشير خليفة حفتر إغلاق الطريق الذي يربط بين شرق البلاد وغربها، ووقف صادرات النفط، ووقف كل تعاون مع الحكومة التي تتخذ من طرابلس مقرا لها. بالتأكيد، سيخرج أبناء القبائل للضغط من أجل إغلاق الحقول والموانئ النفطية، وهو ما سيثبت أن هناك مشكلة حقيقية في ليبيا تساهم الدول الغربية في تكريسها بدعمها لرئيس حكومة لا يسيطر على منابع الثروة، وإنما فقط يتصرف في إيراداتها ويحرم منها أصحاب الحق الأصليين. كان على تلك العواصم، التي تنادي صباح مساء بالرفع من مستويات إنتاج النفط والغاز في ليبيا للمساهمة في مواجهة الخلل الذي تسببت فيه الحرب الروسية في أوكرانيا، أن تدرك أن العسكريين الذين يحرسون منابع الإنتاج ومواقع التصدير محرومون من رواتبهم منذ أربعة أشهر. في أكتوبر الماضي، كانت هناك أزمة مماثلة، ولضمان الاستعداد للانتخابات التي كانت ستنتظم في الرابع والعشرين من ديسمبر، وجه السفير الأميركي أوامره المباشرة للدبيبة بصرف رواتب الجيش المجمدة، وقوبل بالسمع والطاعة، ولكن قبل ذلك، كان مجلس النواب قد امتنع في مناسبات عدة عن التصديق على الميزانية المقدمة من قبل الحكومة، ومن أهم الأسباب أنها لم تتضمن بابا لمصاريف الجيش. يعتقد الدبيبة أن موقفه المتصلب من حفتر وقواته أفضل طريقة لنيل دعم الميليشيات وولاء الإسلام السياسي، ويرى وهو الحالم بالبقاء أبدا في كرسي الحكم، أن أفضل ضمانة لذلك هو استمرار الصراع مع الشرق والجيش، ويعتبر أن المال سيساعده على الترويج لصورته كرمز لإقليم طرابلس، ويراهن عليه البعض كقائد للمرحلة وهو عاجز على الخروج من مناطق نفوذ الميليشيات الموالية له، لكن مجرد إغلاق الحقول والموانئ النفطية سيعصف به، حيث سيتخلى عنه الجميع، ومن كان قبل أيام يضغط على رئيس مجلس النواب عقيلة صالح للإبقاء على حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها سيتجه إلى الضغط على الدبيبة لكي يسلم مقاليد السلطة لرئيس الحكومة الجديدة في هدوء تام، ولكي يوقّع قبل ذلك على إذن بصرف رواتب أفراد الجيش دون تأخير.
مشاركة :