السخرية والجهل يصنعان صورة نمطية للمثقف في المسلسلات

  • 4/18/2022
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

قدمت العديد من الأعمال الدرامية وحتى الأفلام السينمائية في العالم العربي شخصية المثقف بتصورات متشابهة، فيظهر ذلك المعقد والمنطوي والرافض لكل ما هو جديد والمهتز نفسيا، أما شكله فهو مهمل بالكامل ومبعثر الملابس وفوضوي، وغيرها من سمات كوّنت لدى الجمهور العريض صورة نمطية مغلوطة عن المثقفين. البديهيات تقول إنّ أولى تعريفات الدراما التلفزيونية ومهماتها، هي أن تكون مرآة للواقع بكل تفاصيله وفئاته الاجتماعية، مما يسمح لها عندئذ بالخيال واللعب مع الأقدار والمصائر والتطورات في سياق تشويقي. وهذا لا يتحقق إلا عبر الاقتراب من نسيج المجتمع ومعرفة طبيعة كل شخصية من جهة المهنة وطبيعة مخلفاتها النفسية والسلوكية ضمن الوسط الذي تتحرك فيه، بالإضافة إلى ما تسمح به الخلفية المعرفية والثقافية من شطحات تشكل خصوصيتها في السياق الدرامي. داخل هذا الحيز، يتشكل التصور الافتراضي للشخصية الدرامية لدى العامة والخاصة، ويُبنى نوع من المنطق تتم من خلاله محاكمة الأحداث والشخصيات وطريقة معالجتها. إرباك في التصورات كان لا بد من هذه المقدمة الطويلة نسبيا، لنلج باب السؤال عن كيفية تقديم الدراما العربية لبعض الفئات المجتمعية، وهل أوفتها حقها من حيث المعرفة بمكوناتها النفسية والسلوكية أم أن الأخطاء والمغالطات ما زالت مرتبطة بفنون الدراما الاجتماعية المقدمة على الشاشات. غياب المفهوم الموحّد للمثقف يصنع إرباكا في تقديمه وتجسيده وإيجاد فضاء يتحرك فيه ولغة يتكلم بها هذه الأخطاء التي يتفق قسم كبير ممن استهدفتهم على أنها غير مقصودة في مجملها، بدأت بالتكاثر على نحو مريب، إلى حد بروز ظاهرة الدعاوى والشكاوى المتزايدة من طرف النقابات والجمعيات المعنية بعد كل عمل يتناول فئة من هذه الفئات ضمن قضية درامية موصوفة. وبغض النظر عن “الكليشه الأخلاقية” التي يطلقها الإسلاميون مع كل موسم رمضاني ضد بعض الأعمال الدرامية، وكان آخرها مسلسل “حب الملوك” للتونسي نصرالدين السهيلي، على قناة “النهار تي.في”، الجزائرية، فإن أكثر من نقابة مهنية قد أبدت احتجاجها على أكثر من عمل درامي تتعلق بـ”عدم النزاهة والمس من أصول المهنة”. لم يعد الإسلاميون وحدهم من يقاضون الأعمال الدرامية كما اعتدنا منذ سنوات، وإنما دخلت على الخط حساسيات أخرى كنقابة التمريض في مصر التي أقامت طالبت فيها بوقف عرض مسلسل “الكبير أوي” لما اعتبرته إساءة واضحة للممرضة المصرية. وكذلك ينطبق الأمر على نقابات أخرى في مصر ودول عربية، كانت قد تحسست من طريقة تقديم أعضائها في الدراما التلفزيونية. ما يهم هنا ليس الشأن النقابي المتعلق بالغيرة على المهنة والحرص على عدم شيطنتها في عمل تلفزيوني بل المغالطات الواردة في صلب المهنة نفسها، وكذلك الحالة النمطية الساذجة والمسطحة في تناول الشخصية، حتى ولو بالنظر إليها من زاوية “سوبر إيجابية” كالشرطي والعسكري والصحافي والمثقف والفنان. أجل، المثقف والفنان والكاتب. لنتوقف عند هذه الشخصية وما تمثله من إشكال عويص، يتعلق بسؤال مفاده: كيف يرى الفنان نفسه في الفن؟ أول ما يتجلى في هذا الإشكال هو مفهوم “المثقف” نفسه، في ذهنية من كتب هذا العمل الدرامي أو ذاك، وفي خاطر من اشتغل على هذه الشخصية من ممثلين، وكذلك في تصور من انشغل في مظهرها كمصمم الملابس والأكسسوارات والماكياج والديكور والإضاءة. أكبر المعضلات المتعلقة بهذا الأمر هو أن المثقف كمفهوم، ما زال عصي الملامح، ضبابي الرؤية وزئبقي التعريف أي أن الإشكال معرفي بدرجة أولى، إذ كيف للدراما أن تقدم شخصية عديمة التكامل في ذهنية المثقف قبل غيره. لم يعد الإسلاميون وحدهم من يقاضون المسلسلات كما اعتدنا منذ سنوات وإنما دخلت على الخط حساسيات أخرى وإذا كنت أزعم أني مثقف، فحتما سأقدم لك شخصية المثقف كما أراها أنا وليس غيري الذي يحتفظ بمفهوم مغاير يخصه وحده. غياب المفهوم الموحد للمثقف يصنع إرباكا في تقديمه وتجسيده وإيجاد فضاء يتحرك فيه ولغة يتكلم بها. المثقفون والأكاديميون أنفسهم يختلفون في تعريف المثقف الحقيقي، ففي الوقت الذي يربطه بعضهم بمؤسسات الدولة وآليات السلطة، يرى المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، في كتابه “تأملات”، أنه ذاك المعني بالشأن العام، ولكن كيف يتجلى هذا “الشأن العام”، علما أن إدوارد سعيد، قد مثل (ولم يمثّل) في أحد أفلام يوسف شاهين، الذي قدمه كنموذج للمثقف. وتزداد الأمور تشابكا إلى أن نخلص إلى نتيجة مفادها أن “المثقف”، مبدئيا، ليس جاهزا كمثال يحتذى على الأقل. وأمام هذا الفراغ الذي أحدثه غياب المثقف كنموذج، يضطر صناع الدراما إلى الاتكاء على “المثقف الكليشه” أي ذاك الذي تجتره الدراما العربية منذ نشأتها: هو كائن انفصامي نزق، عصبي المزاج، متناقض السلوك، دائم الشرود، ويتعالى عن محيطه حينا أو ينغمس مع مهمشيه حينا آخر. أما على مستوى المظهر والفضاء الذي يتحرك فيه المثقف، فلا يتوانى المخرج ومساعدوه عن الإتيان بممثل غريب الملامح وأقرب إلى المعقد، ترافقه نظارات ولحية كثيفة، في يده غليون، تحت إبطه كتاب سميك، يرتدي معطفا سميكا ويتفوه بكلام غريب.. ومن الأفضل أن يكون فاشلا في حياته الزوجية والأسرية، ومدمنا على المسكرات أو المخدرات أو المهدئات. هذا النمودج وقع استنساخه في أكثر من عمل درامي على مستوى المسرح أو السينما أو التلفزيون، كما أنه يمكن الاستعارة منه في حالة التطرق إلى أي شخصية من النخبة أو الأنتلجنسيا كالفنان التشكيلي أو الموسيقي أو الشاعر. أمام الصورة النمطية المكررة للمثقف، جنح منتجو الدراما إلى تحويل وجهة المثقف نحو الكوميديا، إما إمعانا في السخرية، وإما تناولا للنمط الذي طغى أن يكون هذا هو المثقف الحقيقي لدى جمهور الناس وغالبا ما يستسهل صناع العمل الدرامي شخصية الممثل فيجعلونه، إلى جانب هذا المظهر النمطي، كائنا شبه أبله، يستخدم الجمل المستهلكة والتعابير الإنشائية الممجوجة من مقولات جاهزة ومفردات منتفخة. النموذج الدونكيشوتي أمام هذه الصورة النمطية المكررة للمثقف الذي من المفترض ألا يكتب شخصيته وحواراته إلا مثقف، جنح منتجو الدراما إلى تحويل وجهة المثقف نحو الكوميديا، إما إمعانا في السخرية والاستهزاء لدى بعضهم حين لم يجدوا غير النموذج الدونكيشوتي، وإما تناولا للنمط الذي طغى وأوشك أن يكون هذا هو المثقف الحقيقي لدى جمهور الناس. وما عدا ذلك، برزت أعمال تتناول بوعي نقدي، نموذج “المثقف المسخرة” بمفهومها الشعبي العريض، وذلك في محاولة للربط مع الكوميديا القديمة لدى إسماعيل ياسين، وعبدالمنعم إبراهيم وفؤاد المهندس، علما أنّ هؤلاء قد اشتغلوا على روائع أدبية خالدة. كذلك برز نموذج المثقف الحالي الذي قدمته الكوميديا السورية على وجه التحديد، وبأقلام مثقفين وفنانين معروفين كالتشكيلي أيمن زيدان، والكاتبة المميزة دلع الرحبي. وهو ما يعكس مستوى آخر من الكتابة تتمثل في نقد المثقف الحقيقي للواقع عبر خصمه المثقف الممسوخ. هذه النماذج الناقدة لـ”المثقف الكاركاتير”، جاءت على غرار مسلسل “حارة المشرقة” نص أيمن الدقر وإخراج ناجي طعمة، حيث شخصية “أبوفريد” بشار إسماعيل، الرسام الانطوائي غريب الأطوار؛ والفنان الموهوم الذي يطبق نظرياته التشكيلية حتى على أفراد عائلته؛ فارضا طقوسا عجائبية لممارسة فنه، إضافة إلى شخصية “برهوم” أندريه سكاف، في مسلسل “الفصول الأربعة” الشاعر الذي يعيش على موائد الآخرين، بمن فيهم عديله الذي ينزله في فندق ويدفع له النقود مقابل كتابته لإعلان تجاري عن جوارب ينتجها معمله. صفوة القول إن تقديم شخصية المثقف في الدراما العربية، مرهون بوعي كتابها وصانعيها، أما عن المهن الأخرى التي احتج عليها أصحابها فلا تكاد تتجاوز حدود الغضب والعتاب أمام مهنة من المفروض أن يكون أصحابها المصدر والمنطلق والهدف.. بل تتجاوز كونها مجرد مهنة.. إنها المثقف وما أدراك ما المثقف.

مشاركة :