في الكتابة وفي الشائع من القول، أن البداوة هي أصل العربية؛ لغة وسياسة وفكراً وتاريخاً. كل شيء يبدأ منها أو يعود إليها. وهكذا فإن شاعراً مثل علي أحمد سعيد، أدونيس، (1930- ) ينظّر للشعرية العربية بدءاً من هذا الأزل: البداوة، وتنطلق أغلبية المؤرخين من مقولة أن الصحراء هي البدء، وحين يحلل محمد عابد الجابري (1936-2010) ما يسميه العقل العربي يبدأ تحليله من المهاد الأول، البداوة أيضاً. ولا نكاد نعثر على فكرة أخرى أو يصدمنا ما يخالف هذا البدء الطاغي على الاجتماعي والسياسي والمفكر والشاعر.. والناقد؛ كل شيء أصله الصحراء، تماماً كما أن الماء أصل الخلق، مع فارق ما بين الماء والصحراء. مطاع صفدي (1929- ) صاحب مجلة الفكر العربي المعاصر، يحب أن يتحدث عن عظمة وغنى اللغة العربية، وتلك الدقائق المعبرة عن حالات الشعور والوجدان والفكر وصفات الأشياء، بما يفوق كونها لغة بداوة، ومع ذلك ظل يعتقد لفترة أن هذا الغنى والزخم مصدره الطاقة الإبداعية التي أنشأت دراما العالم في اللغة. وكيف ذلك؟ وهل اللغة إلا صيغة ممارسة حياتية قبل أن تكون مجرد رؤيا؟. المأخوذون بما يسمى الشعر الجاهلي، ومنهم الشاعرة والناقدة والمترجمة سلمى الجيوسي (1928- )، يعتقدون، أنه بحدود القرن السادس الميلادي، وصل الشعر العربي إلى حدود اكتمال فني كبير، ويأخذهم العجب من هذه الأنساق المكتملة التي وصلها الشعر العربي في وقت لا تحمل فيه الأزمنة البعيدة إشاراتٍ إلى الحالات البدائية. وكيف ذلك؟ هل يمكن أن يولد المكتمل المستوى فجأة بلا مقدمات؟. عند مقولة الصحراء كأزل سابق للوجود، يتوقف الفكر، ويبدأ التجوال في هذه البداية، ويبدو ما تلاها معجزاً؛ هذا النشوء العميق والامتداد لوضعية حضارية، وهو لاحق معجزٌ فعلا ما دامت الفرضية قائمة، وهي أن الخواء والفراغ أصل كل شيء.. وهل الصحراء إلا هذا الخواء الأول؟ هنا سيتردد، وإن بشيء من المجاز، صدى رؤيا قديمة للخلق عمادها الخواء المطبق، ثم ولادة الكائنات. ويتلمس الباحثُ العربي من دون أن يشعر هذه الرؤيا ويجعلها قاعدة نشوء أمة، ومولد حضارة. وفي وضعية مثل هذه التي نعيشها، حيث ظلت صحراء الجزيرة العربية من جانب، والصحراء الكبرى في شمال إفريقيا من جانب آخر، سرّين مجهولين، مجرد أزلين وليسا حادثين من الناحية الجيولوجية والجغرافية والمناخية، تظل لفكرة أن الصحراء أصل الأشياء، أصل الشعر والحضارة والقيم والإنسان، سيطرة وجاذبية. وسيعزز عدد من الرحالة والمغامرين الغربيين والروائيين المفتونين بسكينة الصحراء هذه الأسطورة في الأذهان العربية، وهم يكتبون عما يسمونه الصفاء الروحي الذي تضفيه الصحراء على سكانها، فيقرأ العربي، على سبيل المثال، بين ما يقرأ في خمسينات القرن العشرين، رواية الإنجليزية فلورنس باركلي (1862-1921) المسماة المسبحة مترجمة، ويقرأ رواية مواطنها روبرت هتشنز (1864-1950) المعنونة بيلا دونا. وتواصل أسطورة الصحراء سطوتها على كل زوايا التفكير، وتستبعد كل ما يناقضها، حتى لو كان قريباً من الأفهام وملموساً بالحس والعقل. وذلك لأن اكتشاف الأعماق يقتضي رحلة طويلة زمنياً أبعد مما هو معروف كبداية أو معترف به كبداية. * * * يتحدث المؤرخون عن الممالك العربية القديمة في جنوبي الجزيرة العربية بمفهوم الجغرافية/السياسية الراهنة، ولا يخطر بالبال أن العربية السعيدة، التي كان يمتد عبرها طريق العطور، ومنها هذا الجزء الصغير المعروف حالياً باسم اليمن، كانت تمتد جغرافياً وسياسياً وسكانياً إلى شمال الجزيرة، وتمتد شرقاً وصولا إلى عمان الحالية. وحين تشير المكتشفات الأثرية إلى الصراع البابلي- المصري القديم على طريق العطور، لا يملك المؤرخون إلا رفع علامات التعجب من أن أحد ملوك بابل (نبونعيد) وصل يثرب وأقام قصراً له في تيماء شمالي الحجاز، وعاش فيه لسنوات طويلة.. ولا يعرفون لماذا؟ وحتى الرؤية الشائعة عن الهجرات القديمة منذ 10 آلاف سنة ق.م، والتي تدفقت عبرها الجموع العربية إلى الشمال والغرب ووصلت إلى وادي النيل، لا ينظر إليها إلا على أنها هجرات من الصحراء، وكأن أرض الجزيرة التي عرفناها هكذا في القرن السادس الميلادي كانت صحراء كذلك قبل 10 آلاف سنة من ذلك التاريخ. ناهيك عن أن النظريات الحديثة عن هجرات أقدم، وهذه المرة من منطقة الصحراء الكبرى التي كانت خضراء قبل 20 ألف سنة، إلى وادي النيل، ثم إلى الهلال الخصيب وصولاً إلى الجزيرة العربية، لم تطرق حتى الآن أسماع الباحثين العرب. إنها نظرة غير علمية على الإطلاق، وهناك أسئلة لا تجد جواباً، أسئلة تقف أمامها الأسطورة مرتبكة. فإذا كان المهاجرون، من الشرق إلى الغرب أو من الغرب إلى الشرق، صحراويين حقاً وبداة، فكيف أنشأوا، بمجرد نزولهم على سواحل البحر الأبيض المتوسط وفي وادي الرافدين، هذه الحضارات العجيبة؟ ونقلوا معهم الأبجدية والعبادة وسن النظم والأساليب المعمارية التي لا تزال آثارها قائمة في المواطن الأصلية على سواحل حضرموت وعمان وفي أعالي جبال الأطلس، كما هي قائمة في المواطن الجديدة؟ هذا الانتقال لم يكن انتقالاً لبدو بل لأهل كيانات مستقرة بدأت الأرض من حولها تغير طبائعها، أي بدأت بالتصحر. ويشير المسح الجوّي إلى أن مجاري الأنهار العظيمة التي تشق الجزيرة العربية كانت تتدفق بالمياه، وهل ولد فن السدود الكبيرة والجنات الشهيرة في وديانها الجنوبية في الألف الأول ق.م فقط، أم أن له جذوراً أعمق ترجع إلى بضعة آلاف أخرى؟ ثمة مكتشفات في وديان اليمن توصلت إليها بعثة ويندل فيليبس الأمريكية في خمسينات القرن الماضي ذات صلة بالحضارة المصرية القديمة، وأظهر الاختبار الكربوني أنها ترجع إلى الألف الثاني ق.م بعد أن كان الشائع أن علائم التحضر هناك لا تجاوز ستة قرون ق.م. هذا المجال الواسع، الذي لم يستكشف كاملاً في أرض الأسطورة، يصطدم حتى الآن، رغم ضآلة الشواهد المكتشفة بأفكار علماء غربيين يبحثون وفق أجندة تستبعد من مجال البصر والتفكير كل ما ليس له علاقة بالتوراة التي يبحثون عن أدلة على أنها نص تاريخي وليس مجرد حكايات شبيهة بحكايات ألف ليلة وليلة. ولم يعد سراً أن اتجاهات البحث تتوقف على من يقوم به، وعلى أغراضه. وبما أن الصحراء ما زالت أزلاً، فإن كل حديث عن مجرد كونها حادثاً من الحوادث التاريخية عرفتها مناطق متعددة يرجعنا إلى الأرض، ويهدم أسطورة الإبداع من لاشيء. تلك الأسطورة التي يتلذذ بعض الناس بإضفائها على العربي متوهماً أن فيها مديحاً وإعلاءً لشأنه. ثمة أمرٌ آخر يفاجئنا إذا تركنا الحفريات والشواهد الماثلة مثل العمائر والرسوم على الصخور وفي الكهوف، ذلك هو أن اللغة العربية تمتلك مجموعة صوتية متميزة ومتفوقة على أصوات اللهجات العربية المسماة اصطلاحاً لغاتٍ سامية، أي لغات حضارات أكد (بابل وآشور) وكنعان ومصر القديمة، فمثل هذه اللغة التي اكتشفت ألفاظها وتراكيبها في لهجات أقرت (أوجاريت هو الاسم الشائع خطأ لأن اسمها بالحروف الساكنة I.Q.R.T) وإيبلا وبقية الحضارات القديمة، لا تمنح حق الأبوة، بل يقال مثلا إن 700 كلمة عربية اكتشفت في ألواح أقرت المعروفة، وأن 300 كلمة عربية اكتشفت في ألواح إيبلا، ولا يقال إن هذه ما هي إلا لهجات اللغة الأم. وحين يكتشف قارئ اللغات القديمة ألفونسو آرتشي، عضو بعثة التنقيب الإيطالية، قرابة بين لغة إيبلا، كلمات ونحواً وصرفاً، ولغة جنوبي الجزيرة العربية، يوجه إليه اتهامٌ وقح، حسب تعبير رئيس البعثة باولو ماتيه (1940- )، بأن منطلقه سياسي هدفه إرضاء ورثة حضارة إيبلا أي العرب السوريين الحاليين. في هذه اللغة العربية ثمة شيء لا يعتني الباحثون باستقصائه إلى النهاية؛ وهو أنها ليست لغة بداوة ولا صحراء، بل لغة شعب مستقر ومفكر، وكون هذا الشعب قد زالت حضارته المستقرة، وإن ظلت شواهدها ماثلة في جبال اليمن وعمان بسبب الأمطار الموسمية ونظم الري التي ابتكرت لمقاومة زحف الصحراء، فإن هذا لا يعني زوال لغته، فقد أورثها الأبناء، سواء من ظل في مراكز التحضر أم هاجر إلى الشمال، أو تكيف مع ظروف التصحر، وظلت اللغة بكل منجزاتها، كما ظلت التصورات الريفية والكتابية والزراعية، وظل الشعر قائماً على ألسنة هؤلاء؛ بدو ومتحضرين.
مشاركة :