التحويلات التي يرسلها العمال من الخارج إلى أسرهم تشكل جزءا هاما في بناء اقتصاد العديد من الدول. فهي غالبا ما تتدفق بنفس مستوى تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة. وإذا استثنينا الصين، فإنها تشكل أكبر مصدر للنقد الأجنبي في الدول متوسطة ومنخفضة الدخل. ومع ذلك فهؤلاء المهاجرون ثروة كبيرة لبلدانهم لا تحظى بالاهتمام الكافي. معظم البرامج والخطط والمبادرات الحكومية تلتقي في نقطة واحدة وهي تسكين أعراض الأزمات المالية في وقت الشدائد بأموال المغتربين. ولا تتعامل الحكومات، وخاصة في منطقتنا العربية، مع هذه الفئة على أنها معنية كشريك نشط وطرف فاعل يمكنه المساهمة في تنمية الاقتصاد بأدوات مختلفة وبوسائل متنوعة. بعدما ظلت المنافع التي يمكن أن يحققها المغتربون لبلدانهم الأصلية عرضة للتجاهل، تعيد حكومات دول نامية اليوم استكشاف دور أموال المهاجرين لإنقاذها من أزماتها المالية التي أشعلت فتيلها حرب أوكرانيا أكثر من الوباء وأكثر حتى من الأزمة المالية في 2008، وربما أكثر من أي أزمة أخرى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. للتحويلات النقدية قيمة كبيرة، فهي مصدر هام للنقد الأجنبي أولا، ثم إنها شريان حياة اقتصادي للأسر، فهي تسلط الضوء على قدرتها على الحد من الفقر وتوفير رعاية صحية أفضل وتحسين فرص الحصول على الغذاء والتعليم والسكن. والأهم من ذلك تعزيز روح المبادرة والإدماج المالي وتقليل الشعور بعدم المساواة. في أكثر من مناسبة، وغالبا ما يكون ذلك أثناء الضغوط المالية التي تمر بها دولة ما حيث وقع المشاكل المرتبطة بتوقف نشاط الدورة الاقتصادية كبير، هب المهاجرون لمساعدة بلدانهم؛ تأتي التحويلات فتستفيد الدولة وتنتفخ الاحتياطات النقدية ويُحل جزء من المشكلة لكن لا أثر مستداما لها. ثمة حاجة ماسة إلى النظر بعمق وبشكل كامل في المغتربين وتقييم فاعليتهم في التنمية ومساعدة الدولة على التخلص من بعض الأعباء خاصة في أوقات الأزمات دول كثيرة تعرضت لاهتزازات اقتصادية بفعل الصراعات والاضطرابات السياسية والاجتماعية، وأيضا بفعل تأثرها الشديد بما يحدث في العالم، تتذكر أن لديها مغتربين قد يشكلون طوق نجاة في وجه تضاؤل فرص الحصول على قروض من المانحين الدوليين، فقط عندما تمر بمحنة. سريلانكا التي استنجدت مؤخرا بمهاجريها لإنقاذها من الإفلاس، مثال على ذلك، بعدما أعلنت تخلفها عن سداد ديون سيادية. هذا الوضع يذكرنا بحادثة مشابهة قامت بها مصر خلال العشرية الأخيرة مرتين؛ ففي عام 2016 فتحت السلطات شهادات ادخار بالدولار للمغتربين قالت وزارة الهجرة حينها إنها مبادرة ستخدم الاقتصاد وتنمي المدخرات. لم تكن تلك المبادرة الأولى، فقد سبق ذلك إطلاق القاهرة في 2012 لشهادات ادخار بعد انخفاض احتياطي العملة الصعبة إلى مستويات تغطي بالكاد تكاليف ثلاثة أشهر من الواردات، بينما المعدل العالمي المسموح به في الظروف العادية يبدأ من ستة أشهر فما فوق. الحكومة المصرية اكتفت بذلك وانتهت مهمتها. لم تتقدم خطوة أخرى باتجاه التفكير في تحويل تلك التحويلات إلى قنوات الاستثمار، حيث ستكون الأرباح أعلى وأضمن وأكثر استدامة. لم تصل مصر إلى مرحلة الإدمان الذي وصل إليه لبنان على أموال المهاجرين في مرحلة ما، والذي يعد من الحالات الفريدة على مستوى العالم كونه على لائحة أكبر عشرين بلدا مستقبلا لتحويلات المغتربين، والتي تشكل وفق بيانات البنك الدولي نحو 15 في المئة من ناتجه المحلي الإجمالي. على أية حال، هذه المسألة ليست مقتصرة على مصر ولبنان، فالأردن يعاني من نفس الأعراض، حيث لا يوجد تخطيط ممنهج للاستفادة من أموال العمال المهاجرين. وقفت الحكومة في فترة ما على مدى الضرر الذي سيحصل من الهجرة العكسية بعدما خفتت جذوة العمل بمنطقة الخليج العربي نتيجة الإصلاحات الاقتصادية. لقد كان الأردن، الذي لديه أكثر من مليون عامل في الخارج، من أكثر الدول العربية تصديرا للعمالة المدربة إلى دول الخليج وكان يحتل موقعا راسخا في سلم الوظائف الحكومية والقطاع الخاص في تلك الدول. اليوم تبدو الأوضاع مختلفة مع المتغيرات. تونس هي الأخرى يتم تسلل بيانات التحويلات الخارجية فيها بشكل خجول، رغم أهميتها وحتى مع تفوق أموال المغتربين في فترة الجائحة على المحرك رقم واحد، ألا وهو السياحة. ويكتفي البنك المركزي فقط بعرض تأثير ذلك على الاحتياطات النقدية في كل مرة. ورغم التعهدات والبرامج للحكومات المتتالية فإننا لا نلحظ علاقة تشاركية بين الدولة والعمال المهاجرين في عملية التنمية، ولا نلحظ أثرا في حياة الناس. المغتربون ليسوا وحدهم بإمكانهم جني المكاسب، بل الحكومات والقطاع الخاص يعتبران لاعبين أساسيين في هذه العملية رغم أن أموال المغتربين تركز عادة على التدفقات المالية، فإن المهاجرين يولدون أيضا شعورا راسخا تحت ما يعرف بـ”التحويلات الاجتماعية”. إنه تدفق المهارات والأفكار والقيم التي يجلبونها إلى بلدهم الأصلي. حيث تصل التحويلات إلى المجتمع ككل لإحداث تأثير إنمائي أكبر. التحويلات المالية والاجتماعية ستقوم بدور مركزي لو تم استثمارها بعناية في تحقيق أهداف الأسر وعلى نطاق أوسع في تحقيق تنمية مستدامة لطالما بحث المسؤولون عن بداية الخيط للسير فيها وترسيخها. مع ذلك، لا يزال هناك الكثير الذي يتعين القيام به للاستفادة الكاملة من إمكانات التنمية للتحويلات. المغتربون ليسوا وحدهم بإمكانهم جني المكاسب، بل الحكومات والقطاع الخاص يعتبران لاعبين أساسيين في هذه العملية. ويمكن للحكومات تسخير مهارات وإبداع المهاجرين وتشجيعهم على الاستثمار في بلدانهم الأصلية باعتماد سياسات محفزة ومشجعة مثلهم مثل المستثمرين الأجانب. جهود الحكومات يجب أن تتركز على تحسين المعرفة المالية للمغتربين والسكان في بلد المنشأ، حتى يتمكنوا من اتخاذ قرارات واضحة ومفيدة حول كيفية إرسال الأموال وكيفية استثمار تحويلاتهم، لأن المنفعة ستكون في نهاية المطاف مزدوجة. المسألة لا تتعلق فقط بالتحويلات أو بتفكير الحكومات وخاصة الدول العربية الضعيفة اقتصاديا بالمغتربين من حين إلى آخر، أي عندما تحتاج إليهم فقط، بل تتعلق بإرادة صانعي السياسات لإشراك هذه الفئة المهمة. فهناك الملايين من المغتربين ونسبتهم بالمنطقة العربية تشكل 5 في المئة من إجمالي تعداد السكان والتي يعتبرها البنك الدولي أعلى كثيرا من المتوسط العالمي. ولذا بإمكانهم القيام بدور أكبر في تحقيق التنمية. ثمة حاجة ماسة إلى النظر بعمق وبشكل كامل في المغتربين وتقييم فاعليتهم في التنمية ومساعدة الدولة على التخلص من بعض الأعباء خاصة في أوقات الأزمات بوصفهم عوامل تغيير، سواء بالنسبة إلى رأس المال الاجتماعي أو المالي أو الاقتصادي.
مشاركة :