تُرى هل كانوا صادقين؟ أولئك الشعراء الذين أثروا المكتبة العربية بأشعارهم الغزلية التي تتفجر لوعة وشوقًا، والذين ننصت إلى خلجات صدورهم فتنتقل إلينا عدوى مشاعرهم المرهفة. وإذا استثنينا من اعتادوا استهلال قصائدهم بمقدمات النسيب، باعتبارها تقليدًا أدبيًّا لا يحمل لهيب العواطف الجياشة، وحصرنا رؤيتنا ضمن شعراء الغزل العذري، أمثال قيس بن الملوح، وقيس بن ذريح، وكثير عزة، وجميل بثينة، هل نصل بعدها إلى نتيجة؟ ولو اكتفينا بهذا الشاعر الأخير، وعكفنا على شعره قراءةً وتذوُّقًا، أنجد ما يشفي صدورنا ويريح أنفسنا من هذا التساؤل الملحِّ؟ لا أظن، بل ربما كان شعر جميل بثينة خصوصًا هو ما سيفتح لنا بابًا من الغموض المظلم الذي لا صبح وراءه، ذلك أن في قصة عشقه العجب العجاب. ويدعنا جميل نفسه بعد التجوُّل في ديوانه ضحية مزيد من الدهشة التي ملؤها الحيرة، ولا سيما حين نسمعه يقص علينا بداية قصته مع صاحبته بثينة: وَأَوَّلُ مَا قادَ الـْمَوَدَّةَ بَيْنَنَا بِوَادٍ بَغِيضٍ يَا بُثَينَ سِبَابُ وَقُلْنَا لَهَا قَوْلًا فَجَاءَتْ بِمِثلِهِ لِكُلِّ كَلامٍ يَا بُثَيْنَ جَوابُ هكذا، بكل وضوح، يعلنها، أن الإهانة هي ما قادته إلى الغرام المشتعل في قلبه. وإذا ابتعدنا قليلًا عن شعر جميل، بل إذا ابتعدنا عن أشعار كل العذريين، وحاولنا دراسة البيئة الاجتماعية التي نشؤوا فيها، يصدمنا الدكتور صادق جلال العظم بفكرة تزيدنا قلقًا، مفادها أن القيود القبلية كانت تمنع تزويج الشاعر بمن تغزَّل بها، ويتساءل: «لماذا لم يكتم جميل حبه لبثينة، إن كان في الحقيقة يحبها ويبغي الرباط المقدس بينه وبينها، ليُقدم على خطبتها تمشيًا مع الأعراف القبلية؟». ويمضي الدكتور العظم في كتابه «في الحب والحب العذري» على هذا المنوال من البحث، ليصل إلى تكذيب جميل وإخوانه من الشعراء في دعاوى حبهم المزعوم. واللافت في كتابه أن نرى الصفحة الأولى منه وقد طُرِّزت بكلمات شاعر طالما ارتبط اسمه بالمرأة، هو نزار قباني، حيث كتب: «قبل هذا الكتاب، كان العشاق العذريون في تصورنا أنقياء كالملائكة، معصومين كالقدِّيسين». حتى أنت يا نزار، لم تصدِّق أحاسيسهم المرهفة، فكيف لنا أن نصدِّقكم جميعًا؟! طباعة Email فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :