صحيح أن العرب فتحوا البلاد والأمصار ومرغوا أنوف الفرس والرومان وجميع الكفار إلا أنهم كانوا يعودون لطبيعتهم الانقسامية بمجرد اختفاء عدوهم المشترك وقيادتهم الموحدة.. هذا ماحصل منذ معركتي الجمل وصفين حيث تأرجحت أحوالهم بين فتوحات تجمعهم، وتناحرات جاهلية تعيدهم لسابق عهدهم.. فلأنهم أصحاب ثقافة قبلية يعودون بسرعة مدهشة إلى حالات التناحر والاقتتال بمجرد زوال الهدف المشترك أو الطاغية الذي يجمع شتاتهم (ولكم عبرة فيما حدث في ليبيا وسورية واليمن والعراق).. لا تغرنك مظاهر الاستهلاك الراقية التي يتدثرون بها، كون أي نعرة قبلية ومذهبية كفيلة بإشعال مبدأ "لنا الصدارة دون العالمين أو القبر".. يعودون بسرعة إلى أيام داحس والغبراء لأن ثقافة داحس والغبراء مازالت بكل بساطة تحيا بينهم.. لاحظ كيف عادوا بسرعة إلى طبيعتهم القبلية والمذهبية بمجرد زوال الطاغية في دول الربيع العربي (الذي رغم كل مساوئه كان يمسك بزمام الأمور ويحمي البلاد من النعرات الانفصالية).. لم يتغير شيء خلال الألفي عام الماضية حيث غياب شيخ القبيلة يتسبب بإسقاط كافة أحجار الدومينو وتقاتل الجميع للجلوس مكانه.. لا أنكر محاسن الديموقراطية ولا أنكر أنها أرقى أشكال الحكم في عصرنا الحاضر.. ولكن لا ننسى أن الديموقراطية ليست أنظمة وقوانين وتشريعات، بل تربية وثقافة وروح رياضية وقبول طوعي بحكم الأغلبية (وجميعها مفاهيم ليست غائبة فقط في ثقافتنا العربية بل لم تكن بيننا في يوم من الأيام).. لن تنفع الديموقراطية في مجتمعات تعتبرها كفراً وخنوعاً وغلبة لمن لا يستحق.. لن تنفع الديموقراطية في مجتمعات قبلية أو مذهبية أو تنظر لبعضها بفوقية وعنصرية.. إن لم تتبلور الديموقراطية كقناعة شخصية واجتماعية.. إن لم تمارس أولاً في بيوتنا ومدارسنا.. إن لم تترسخ من خلال تكرار التجربة حتى تصبح طبعاً وعادة؛ ستتم فبركتها ببساطة لصالح الأقوى في معركة الصراع على المنصب.. لاحظ المسميات الرسمية لمعظم الدول العربية (الجمهورية/ الديموقراطية/ الشعبية) في حين أنها مجرد غطاء لمؤسسات عسكرية خاضعة لحكم فرد يرفض التنازل.. أو حتى الموت.. أسوأ أشكال الحكم في عالمنا العربي هي التي مورست تحت هذه المسميات (في العراق وسورية وليبيا واليمن) وأكثرها رفقاً وعقلانية هي تلك التي لم تدعيها أصلاً (كالأنظمة الملكية في الخليج والأردن والمغرب العربي).. وفي حين طفح كيل الشعوب التي تعيش تحت حكم المجموعة الأولى (حيث دخل القذافي ومبارك وصالح موسوعة جينيس كأطول الحكام بقاءً في الحكم) نجت المجموعة الثانية من موجات القلاقل والاضطرابات كونها أنظمة "أبوية" شكلت محوراً لاجتماع شعوبها.. ولأن العرب ليسوا أهل ديمقراطية، أسقطت شعوب "الربيع العربي" الطغاة العسكريين ولكنها لم تعرف بعد ذلك كيف تصنع رؤساء مدنيين منتخبين.. لم يكن لديها بدائل أخرى فحدث فراغ سياسي أعادهم لحالات التناحر والتقاتل وتقاسم الغنائم والأراضي والممتلكات.. ظهرت داعش في سورية، والحوثيون في اليمن، والقاعدة في ليبيا، والمليشيات المذهبية في العراق لأن أي فراغ أمني يملؤه ببساطة تمدد إجرامي أو تطرف أديلوجي!! باختصار شديد: حتى نمتلك ثقافة ديموقراطية.. وحتى نتعامل بروح رياضية.. وحتى نقتنع بحكم الأغلبية.. وحتى تختفي ولاءاتنا القبلية والمذهبية؛ لا يجمع زمام العرب غير ملك حازم أو طاغية يتساوى في ظلمه الجميع.
مشاركة :