الإنسان بين «حسن النية» و«سوء النية»

  • 4/21/2022
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

كان يرى إنه من الفضيلة أن لا ينتقص من مكانة القانون في وطنه   الإنسان الفرد، مهما تدنى شأنه أو وضعه أو مقامه أو منزلته بين أقرانه من الناس في شبكة العلاقات الاجتماعية، فهو في أعماق ذاته يرى أنه هو الأعلى بل وهو الأمثل، وما هذا بجديد، بل هو أس علاقة الفرد بذاته أمام الآخر على ساحة الحياة في صراع بديهي طبيعي من أجل مجرد البقاء أو من أجل الارتقاء بالبقاء. الدافع اليوم، ومنذ أن استقر المقام للإنسان على الأرض، هو صراع الانسان مع الانسان من أجل الارتقاء بالوجود، الكل يسعى من أجل الاستحواذ على أكبر قدر من متع الحياة، وإن كانت بعض المساعي على حساب الآخرين أو حتى على رفات أنقاضهم، وهذا هو حال الانسان في عالم السياسة والاقتصاد والتعاطي الفردي في المجتمع. علاقة الفرد بذاته كشف عنها الغطاء بدقة الفكر الوجودي الذي عرضه جان بول سارتر في كتابه المرجعي «الوجود والعدم»، ومؤسس علم النفس سيجموند فرويد الذي سبق الوجودية في كتابه البحثي «الأنا والهُوَ». سارتر تطرق إلى رابط بين الأنا والهو، أو بين الأنا والآخر، هو ما سماه «سوء النية»، حيث يكذب الإنسان على نفسه بتبريره التنصل عن المسؤولية التي هي أساس الحرية، وتنصل الإنسان عن مسؤوليته أمام الإنسان هو محور مأساة الانسان في الحياة. إن اختزال هذا الرابط فقط بـ«سوء النية» ينتقص من طبيعة الرابط «رابط النية» الذي يمتد، في واقع العلاقات الإنسانية، من أقصى الطيبة إلى أقصى السوء.  فمن وجهة نظر مكملة، فإن «سوء النية» ليست هي الرابط كله، بل هو الأقصى السيئ في «رابط النية» الذي يمتد بين «سوء النية» و«حسن النية». الغالب من عامة الناس، بمقتضى الواقعية ومحدودية القدرات، سلوكيتها ونفسياتها تؤشر على نقطة التعادل، بينما القلة من الناس تتحمل المسؤولية وتتصرف على قاعدة «حسن النية» الأعلى، حيث استعداد الفرد أن يضحي بنفسه من أجل الآخرين، وبالمقابل قلة من الناس تتنصل من المسؤولية و تتصرف على قاعدة «سوء النية» الأدنى، حيث استعداد الفرد أن يضحي بالآخرين من أجل نفسه.  «رابط النية» هو المنبع الذي تتدفع منه المفاهيم والمرادفات الأخلاقية بين الفضيلة والرذيلة، والخير والشر، وبينهما كم من المفاهيم مثل الصدق والكذب، الكرم والبخل، الحب والكراهية، الحياء والوقاحة، التضحية والخيانة، الحصافة والحماقة…  سقراط، فيلسوف الحكمة و الفضيلة، ضحى بنفسه من موقع «حسن النية» عندما قبل طوعًا لا كرهًا حكم القضاة ضده بتناول كاس السم، وكان بمثابة حكم بالإعدام، وكان يرى إنه من الفضيلة أن لا ينتقص من مكانة القانون في وطنه، وهو بهذه الرؤية يكون قدوة لأبناء وطنه، وهو الفيلسوف الحكيم الذي كان يشعر بالمسؤولية تجاه الإنسانية قاطبة… رغم أنه كان بإمكانه أن ينقذ نفسه بالهروب من وطنه بمساعدة تلاميذه وعلى رأسهم الفيلسوف أفلاطون، لكنه رفض إنقاذ نفسه بالهروب وقبل حكم الإعدام في حقه لأنه كان يرى في نفسه الذات الأمثل التي عليها تحمل المسؤولية من أجل الفضيلة، أي من أجل خير البشرية. والحلاج كان يشعر بالمسؤولية تجاه أمته التي كانت ترزح تحت وطأة زمرة منافقة تستغل الدين لإشباع ذاتيتها الانانية بتبرير الظلم المسلط على رقاب الناس، وكان لهذا الشعور المشع بـ«حسن النية» تبعات سلبية قاتلة بحقه، ولكنه أصر أن يضحي بنفسه من أجل تبيان الحق ونشره بين الناس، ومن أجل إحقاق الحق لأصحاب الحق… ضحى بنفسه، لأنه كان يرى في نفسه الذات الأمثل التي عليها تحمل المسؤولية من أجل الفضيلة، أي من أجل خير البشرية… ما كان أمام الحلاج من سبيل لإنقاذ نفسه من تنفيذ أبشع أنواع الإعدام في التاريخ إلا بالسجود أمام جلاديه من فقهاء السلطة والاعتراف بالذنب وطلب العفو والمغفرة، وعندها كان من المرجح أن يخفف عليه حكم الإعدام بضربة واحدة من السيف دون تعذيب ولا تمثيل ولا سلخ للجلد، لكنه أبى السجود إلا لله، فمات معذبًا مسلوخ الجلد. على النقيض، من بشاشة وجه «حسن النية» الأعلى وهي التضحية بالنفس الزكية من أجل الآخرين، تطل علينا بشاعة وجه «سوء النية» الأدنى وهي التضحية بالآخرين من أجل النفس الدنيئة. «سوء النية» في أقصى السوء هي تلك التي يكون الفرد بها على استعداد تام، نفسي وذهني لبيع شعبه ووطنه ومقدرات أمته من أجل تحقيق طموحات ذاتية بحتة لا تمت بأية صلة بالخير سوى إشباع غرائز الذات دون أدنى اعتبار للآخرين وبتنكر فج ووقح ضد جميع القيم الأخلاقية. هذا الوجه القبيح للإنسان ضد الإنسان حاضر مع الإنسان منذ بدء تاريخ الإنسان إلى اليوم وإلى اليوم الذي تكون فيه خاتمة الإنسان على الأرض، إنه الرذيلة في حلة الشيطان والشر بأوامر إبليس. إن أقصى درجات «سوء النية» هو خيانة مواطن لوطنه والتسبب في وضع أبناء جلدته تحت وطأة الظلم أو تحت أقدام عدوه الغاصب. شبه القارة الهندية، كمثال حاضر على أقصى درجات «سوء النية»، كان ضحية خيانة من داخل السلطة الحاكمة، من أعلى قمة الذراع العسكري الذي من مهماته الوطنية حماية الوطن والشعب ضد أي اعتداء خارجي… الشعب الهندي لا يمكن أن ينسى خيانة رجل واحد أوقع الهند تحت الاحتلال البريطاني 200 عام، هو المدعو سيئ الذكر مير جعفر. كان مير جعفر جنرالاً في الجيش البنغالي، عندما كانت بنغلادش إمارة ضمن إمبراطورية مغول الهند، وكان الطموح إلى قمة السلطة يقض مضجعه فرأى في خيانة وطنه والتخاذل في أداء وظيفته العسكرية وسيلة لتحقيق طموحه، وما درى أن هذا الخيار يضعه تحت أقدام قوة استعمارية «بريطانية» تدوسه بعد أن تستثمر خيانته، وهذا هو عمى الخيانة… الخائن بطبيعة الخيانة، وهي أقصى درجات «سوء النية»، أعمى البصيرة لأن الطموح المفرط في الانانية يبني سدًا منيعًا بين الخائن ومحيطه الإنساني، وبين ذاته والمعايير الأخلاقية والإنسانية… وهكذا تتوضح الصورة بين ظلمة «سوء النية» و نور «حسن النية»، وما التنوير الذي يشع على الانسان في جميع العصور إلا تلك الإضاءات التي تخرج من نفوس طاهرة بـ«حسن النية» كرست حياتها من أجل إعلاء كلمة الحق والتضحية من أجل كرامة الإنسان… و لولا جهود التنوير لما عرف الإنسان أن له حقوق وأن ذاته كريمة.

مشاركة :