العديد من كبار مقدمي برامج التلفزة ومخضرمي الإعلام العرب باتوا صريحين على نحو لافت هذه الأيام في شأن شروط استمرارهم في العمل: لا أسمع، لا أرى ولا أنطق بأي شر. بعد فترة وجيزة من السكون، أحدثتها ثورات الربيع العربي، قرر إعلاميون مساندة حكوماتهم وحكامهم، وأن يكونوا لسان حال السلطة بدل المخاطرة بفقدان وظائفهم، والتعرض للضرب، محاكمات تعسفية، مضايقات واعتقالات. تغذي هذا الاستسلام قوانين مكافحة الإرهاب الجديدة التي استحدثتها مصر، تونس، الأردن، البحرين. إذ دقّت هذه القوانين المسمار الأخير في نعش حرية التعبير في أرجاء المنطقة. وقبلها القيود المفروضة على الإنترنت معززة بحزمات متكاملة من سياسات القمع في مصر ودول أخرى. على هذه الخلفية، تغدو الرواية الرسمية – على الأغلب- السجل الوحيد للوقائع، بينما يسترخي المسؤولون لإدراكهم أن الإعلام لم يعد يجرؤ على محاسبتهم ومساءلتهم. وفي أحيان يتساءل صحافيون: «ما المشكلة في أن تكون موالياً للحكومة ولوجهة نظرها»؟. ويتساءلون: «لماذا علينا البكاء على الحليب المسكوب»؟ الإجابة عن ذلك بسيطة: إنها رسالتكم. في الأردن، أقر 95 في المئة من 250 صحافياً بممارسة رقابة ذاتية على تقاريرهم، وفق استطلاع أجراه في أيار (مايو) 2015 مركز حماية وحرية الصحافيين (CDFJ). وأسرّ معظمهم لمنفذي الاستطلاع أنهم كانوا «خائفين جداً» إلى درجة لا تسمح لهم بانتقاد مراكز قوى في الوطن. إذاً لا فائدة ترجى من منسوب الحريات في الأردن، هذه الدولة العربية «المعتدلة»، التي تتفاخر حكومتها بحرية الإعلام؛ وهي أحد أهم حلفاء واشنطن في المنطقة، وأثيرة لدى الجهات الدولية المانحة. ولكن الحال أسوأ بكثير في أماكن أخرى. لماذا أخمدت أضواء حرية التعبير والإعلام المستقل في معظم أرجاء المنطقة؟ الإجابة تثير الشعور بالأسى. الإعلاميون الذين غامروا بمهنتهم في سبيل كـــشف تجاوزات مسؤولين، لم يجدوا دعماً شعبياً. وقد شاهدوا، في كل مناسبة، المواطنين العرب وهم يتخلون عن الحريات والحقوق الديموقراطية الأساسية مقابل وعود مبهمة بالاستقرار والرخاء الاقتصادي. لا يعني ذلك أن تلك الوعود نفّذت. فالمواطنون العاديون هم أول من يتذمر من تحليق الأسعار، وسوء الرعاية الصحية ومستوى التعليم المتدني. ويتساءلون أين الوظائف الموعودة؟ وأين الأمن الموعود أمام الهجمات الإرهابية المتصاعدة؟ حتى في تونس، أنموذج الربيع العربي المميز، يسود الشك لدى غالبية السكان. وتؤشر استطلاعات الرأي إلى أن الغالبية ترحب بعودة الديكتاتور ذاته الذي أطاحوه في كانون الثاني (يناير) 2011. والحقيقة هي أن الناس تخاف الفوضى في المنطقة، الحروب الأهلية وانهيار الدول والموت والدمار – أكثر من خوفها من قمع السلطة «المعتاد». فهم نشأوا مع هذا القمع وتعايشوا معه عقوداً، ووجدوا سبلاً لتجنبه. إنه الشيطان الذي يعرفون. لذا، من غير المستغرب أن تحتل الصحافة الحرة والمستقلة منزلة متدنية جداً – أو تغيب – عن قائمة أولوياتهم. ومن المرجح أن تبقى هكذا في المستقبل المنظور. ذلك هو الواقع المحزن في العالم العربي اليوم. ما الذي ينبغي فعله؟ هل يتعين على الصحافيين والكتّاب التخلي ببساطة عن المعركة من أجل خدمة مجتمع لا يقدِّر ذلك، وانتظار زمن أفضل؟ لا أعتقد ذلك. ولكن ثمن صحافة «الرقابة والتقصي» سيكون باهظاً. قبل أسابيع، منعت عزة الحناوي، مذيعة قناة «القاهرة» الحكومية، من الظهور على الشاشة بعد أن ارتجلت انتقاداً لسياسات الحكومة. خضعت الحناوي للاستجواب أمام لجنة داخلية وتلقت إنذاراً قبل السماح لها باستئناف عملها. ذلك كله في ظل نظام أوقف على مدى سنتين عدداً من الصحافيين يفوق من سجنهم حسني مبارك الذي حكم البلاد لثلاثة عقود. أوائل تشرين الثاني (نوفمبر) اعتقلت المخابرات العسكرية المصرية المراسل الصحافي الاستقصائي والناشط البارز في مجال حقوق الإنسان حسام بهجت. واستجوبته في شأن تحقيق استقصائي نشره في موقع «مدى مصر»، عن محاكمة عسكرية سرية مزعومة لـ 26 ضابطاً بزعم أنهم يدبرون لانقلاب عسكري. ثم أحيل على محكمة عسكرية بتهم «نشر أخبار كاذبة تضر بالمصالح الوطنية، ومعلومات تعكر صفو السلْم العام». الإعلامية ريم ماجد مقدمة البرنامج التلفزيوني الجديد «جمع المؤنث السالم» أوقفت عن العمل، بعد عرض حلقتين من البرنامج الذي يناقش قضايا اجتماعية ونسوية على قناة (أون تي في/ ONTV) بالتعاون مع فضائية «دويتشه فيله» الألمانية. الحكومة تنفي ممارسة أي ضغط لوقف البرنامج. ولكن ريم ماجد، التي أيدت ثورة كانون الثاني (يناير) 2011، قرّرت طوعاً وقف برنامجها الحواري بعد عزل الرئيس محمد مرسي عام 2013. وفي الأردن، يقول إعلاميون ممن استفادوا من هامش حرية قصير الأجل بين عامي 2011 و 2013، إنهم يعرفون الآن ما هي المواضيع التي عليهم تجنبها. وتتضمن القائمة حرب الأردن على تنظيم «داعش»، ومحاكمات تتعلق بالمؤامرات الإرهابية، وانتقاد الزعماء العرب الذين يقدمون الدعم المالي لعمّان. وفي مطلع الشهر الماضي أوقف المذيع التلفزيوني طارق أبو الراغب، من قناة «الحقيقة الدولية» الخاصة، بدعوى نشر تعليقات مهينة على فايسبوك. ووجِّهت إليه تهمة التشهير بمقتضى قانون جرائم الإنترنت في الأردن حيث تتم محاكمته. جاء ذلك بعد أيام على إقرار الحكومة إمكان توجيه تهمة قدح وتشهير ضد الصحافيين، بمقتضى قانون جرائم الإنترنت، متجاوزة قانون المطبوعات والنشر، الذي يحظر حبس الصحافيين في قضايا نشر/ بث. استمرار القلاقل في اليمن يجعل منه مكاناً خطِراً للصحافيين. وقد تعرض أزيد من 40 صحافياً للاختطاف على أيدي الحوثيين، منذ أن استولوا على جزء كبير من البلد ووسائط إعلامه. ويحتاج الصحافيون إلى إذن رسمي من الموظفين الحوثيين لمغادرة اليمن إذا كانت مهنتهم مثبتة في جوازات سفرهم. والانتهاكات بحقهم لا تتوقف. وفي تونس اليوم، يقول الصحافيون إن وسائل الإعلام لم تكن قط حرة إلى هذا الحد. فالحكومة تفكر مرتين قبل إبلاغ الصحافي ما لا ينبغي عليه الكتابة فيه، خشية التعرض على الأرجح لردود فعل غاضبة من المجتمع المدني النشط. لكن الخطر الأكبر الذي يهدد وسائل الإعلام اليوم هو «الفساد الذاتي» في هذا القطاع، ذلك أن معظم الوسائط الخاصة تعود إلى أعضاء في أحزاب سياسية بارزة، يرغبون في خوض ريادة الأعمال. وتستمر انتهاكات حقوق الإنسان وتعذيب الموقوفين. من ناحية أخرى، يواجه صحافيون – من قليلي الخبرة المهنية والاحترافية العالية - محاكمات بموجب قوانين عقوبات قديمة شديدة القسوة في تونس. وينتظر مشروع قانون في شأن الوصول إلى المعلومات موافقة أول برلمان منتخَب. في تقريري العامين 2014 و2015، وصفت «فريدوم هاوس» الصحافة في البحرين بأنها «غير حرة». وفي سورية، يُستهدف الصحافيون المحليون والأجانب عن عمد برصاص النظام والجماعات الجهادية المتشددة. منذ آذار (مارس) 2011، قتل أكثر من 110 صحافيين بينما يرزح 80 صحافياً قيد الاعتقال حالياً. أمام التهديدات من جميع الجهات، تفر وسائل الإعلام السورية من بلادها بأعداد كبيرة. وقلما يجازف صحافيون أجانب بدخول سورية. فالمناطق الواقعة تحت سيطرة داعش باتت «ثقوباً سوداء» بالكاد تخرج منها أخبار مستقلة، بينما قطعت رؤوس صحافيين عرب وأجانب. وفي لبنان، حيث تشكل صحف ومحطات تلفزة منافذ دعاية لرجال أعمال وسياسيين، عمّقت الأزمة السورية الاستقطاب بين وسائط موالية لإيران وأحزاب شيعية وتلك التي تدعم الائتلاف السني بقيادة تيار المستقبل. وفي ليبيا، يهدد الاقتتال حرية تدفق المعلومات وعمل المراسلين. على هذه الخلفية القاتمة، عقد الملتقى السنوي الثامن للصحافيين الاستقصائيين العرب في عمان في 4 كانون الأول (ديسمبر). وعلى مدى ثلاثة أيام، التقى أكثر من 300 إعلامي عربي وأجنبي وأساتذة إعلام لمناقشة عدّة قضايا رئيسة، في مقدمها الرقابة المتزايدة في أرجاء المنطقة، إضافة إلى تصاعد التضليل والتجهيل واغتيال الشخصية. هذه الكوكبة جزء من قرابة 1600 إعلامي عربي تدربوا على منهجية «أريج» في الاستقصاء منذ انطلقت «شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية» عام 2005. يتوقع المشاركون أن يعكس هذا الملتقى – الأكبر على مستوى المنطقة- بقعة ضوء إرشادية لصنّاع القرار والشعوب على حد سواء. وهم بحاجة إلى دعمكم – ويستحقونه. * المديرة التنفيذية لشبكة أريج؛ منظمة غير ربحية رائدة في المنطقة، تنشر ثقافة التحقيق الاستقصائي داخل غرف الأخبار وكليات الإعلام في تسع دول عربية: الأردن، سورية، لبنان، مصر، فلسطين، العراق، اليمن، تونس والبحرين.
مشاركة :