تقف الرواية الفلسفية كوسيط بين عوالم التجريد الفكري ومفاهيمه المتداخلة وعوالم الحكاية أو الحالة وما تقدمه من جزء حيوي متجسد، لذا فإن في توحد التجريد بالتجسيد خلق جديد يبسط الأفكار ويجعلها أكثر قابلية للفهم ويعمق الحكاية أو الحالة أو السرد ويجعلها أبعد من مجرد خرافة أو إخبار. وهذا الدمج تقوم به بنجاح الكاتبة والباحثة التونسية أم الزين بن شيخة المسكيني. تمثل رواية “طوفان من الحلوى… في معبد الجماجم” للكاتبة التونسية أم الزين بن شيخة صفعة في وجوه الحكومات والأنظمة السياسية التي تفننت في قتلنا وتهميشنا وتفقيرنا وذبحنا وقطع رؤوسنا، وهي صرخة قوية في وجه الظلاميين وتجار الدم والفاسدين والطغاة الذين جعلوا من أجسادنا جثثا تتراقص عليها كلاب بول نيزان وغربان فان كوخ في مشهد تراجيدي لا شيء فيه غير الدم والموت والرؤوس المذبوحة وهي تتطاير في سماء بلا أفق ولا هوية ولا مسار. تدفعنا الرواية، الصادرة عن الدار التونسية للكتاب في 265 صفحة، إلى طرح العديد من الأسئلة ومحاولة الإقامة فيها لأن البحث والكتابة في نهاية الأمر هما تطبيب لجرح السؤال بالسؤال وما السؤال إلا كسر للحدود والنقاط والفواصل وفتح لأفق الحقيقة خارج الأطر التقليدية. فهل يمكن كتابة الأزمة والكارثة؟ وكيف يمكن تحويل المشهد الذي نعيشه (الواقع) بما هو ضرب من ضروب الفاجعة إلى نص منفلت يتقاطع فيه الواقعي مع الخيالي والفردي مع الجماعي؟ هل الأدب قادر اليوم على فتح أفق لهذه الشعوب بوصفه تحريرا للحياة حيثما وقع اعتقالها على حد تعبير جيل دولوز؟ ما جدوى الفن والأدب والكتابة في زمن الإرهاب والتخلف والتلوث الفكري المعمم؟ كيف يمكن قراءة صرخة هولدرلين عندما قال “لماذا الشعراء في هذا الزمن الرديء؟” ومقولة أدرنو “لماذا الشعراء بعد المحرقة؟” هل هي عملية رد فعل على الفاجعة التي نعيش أم أنها موقف، أم فكرة، أم التزام فكري وأيديولوجي على نحو ما؟ محاكمة الجناة خطاب تشابكت وتقاطعات فيه الألسنة خطاب تشابكت وتقاطعات فيه الألسنة كتبت الرواية بدماء الأخوين مبروك وخليفة السلطاني (الأخوان اللذان اغتالهما الإرهابيون) وبدموع أمهما دادة زعرة، وبأصوات الثكالى واليتامى وبأجساد المقهورين والمعذبين في الأرض وبشحم ولحم الفقراء والبسطاء الذين أسقطهم التاريخ من حسابه وأسقطتهم الجغرافيا من تضاريسها، فالرواية لا تنزل علينا بوصفها عملية رد اعتبار خاوية وفارغة لهؤلاء المساكين بقدر ما تتجاوز هذا المنطق لتتحول وتنتصب بوصفها محكمة ومحاكمة لكل من أجرم في حق هذا الشعب وكل من قتل وسفَرَ وحرضَ وذبحَ واغتال الحلم فينا ومارس علينا القمع والاستئصال والمراقبة والمعاقبة وبالتالي فهي لحظة خطت فيها الكاتبة سردية الموت والألم والقتل في محاولة جريئة لكتابة الكارثة والأزمة التي خنقتنا وقطعت أوصالنا وهو ما يؤكده موريس بلانشو بقوله إن “الفاجعة عديمة الخبرة هي ما يتملص من أي إمكانية لإقامة كتابة، تكون تجربة حدا. ومن اللازم تكرير ما يلي: إن الفاجعة تصف. ولا يعني ذلك أنها تقصي نفسها من الكتابة، بصفتها قوة للكتابة، لتكون حاشية خارج الكتابة”. فالمشهد التراجيدي الذي نعيشه ونؤدي بشكل ما دورا فيه قد كتب بالسكاكين والبندقيات والمدافع، أي أن الفاجعة عندنا قد فرضت نفسها كتجربة ألهمت الكاتبة لتدوين روايتها وهو ما يؤكد على أن فاجعتنا قد تجاوزت حدود الخبرة ولم تكن موجودة على الهوامش والحواف بقدر ما كانت ساكنة في بواطننا وأجسادنا وبالتالي هناك قوة وطاقة تفرض نفسها على فعل الكتابة وتجبر الكاتبة بشكل ما على الدخول في الكارثة وتوقيعها وكتابتها بشكل شعري، ففعل الكتابة هنا هو فعل مقاومة والتزام لا على النحو السياسي الجامد والثابت الذي يضع الخطاب في موقع واحد وزاوية ضيقة، بل على النحو الذي يجعل من الرواية أثرا مفتوحا على المعاني والدلالات وهو ما يجعل من النص مقاوما ومفتوحا في آن واحد. “طوفان من الحلوى… في معبد الجماجم” رُبَ عنوان اختارته الكاتبة للرواية ورُبَ مسارات وأسئلة يمكن للقارئ الترحل داخلها بغاية فهم هذا التناقض والتضاد الذي يسكن جسد النص، فأن تقرأ هذه الرواية يعني أن تتجول في غابة من السرد وتترحل في طوفان من الحكايات والقصص، فالعنوان جاء برأسين ولكل رأس حكاية، قصة، خرافة، سردية، فكرة، سيرة، تلتقي في لحظة ما قبل أن تتباعد وتتنافر ويسكن كل رأس مضجعه الخاص ومكانه القصي، فالمعنى يولد في الرواية ويتشكل بين طوفان من الحلوى وما يوحي به من حياة وحب وسلام وبين معبد الجماجم وما يرمز إليه من موت ودمار وقتل. ترسم لنا الكاتبة بذلك شخصيات تحاكي عبرها الواقع والأفق والحلم عبر خطاب راديكالي تشابكت وتقاطعات فيه الألسنة: لسان الفيلسوفة ولسان الشاعرة ولسان الروائية ولسان المواطنة التي ترغب العيش في وطن حر وبلد سعيد، وهو ما يجعل من الرواية متجاوزة للنمط الكلاسيكي المبني على منطق تخريف واضح، ففي هذا النص لا توجد قصة بمعناها التقليدي والتي تنطلق بالشخصيات والأحداث من نقطة ما لتصل بهم نحو نقطة أخرى بقدر ما كان النص مفتوحا على معطيات الراهن والموجود من الأحداث حيث لا يمكن الإمساك على معطى محدد سلفا، فكل الأحداث مفتوحة على الصدفة والعرضي في مختلف السياقات السياسية والاجتماعية والثقافية التي نعيشها. رواية فلسفية تأتي "طوفان من الحلوى… في معبد الجماجم" بوصفها رواية فلسفية ونصا ينتمي إلى أدب ما بعد الحداثة تأتي “طوفان من الحلوى… في معبد الجماجم” بوصفها رواية فلسفية ونصا ينتمي إلى أدب ما بعد الحداثة فهي مبنية على أساس التشظي والتجزئة والتفتيت في قالب شعري وفني وأدبي تقاطعت فيه الحكايات والقصص في طوفان من السرد الذي كان ممزوجا بالشعر والفلسفة والحميمية والحنين إلى تلك الجبال التي حولتها الجماعات الإرهابية إلى مذبح ومكان للرؤوس والجثث. فالكاتبة تقوم بحياكة روايتها عبر الرقص بين الشخصيات وعوالمها: تارة نجد أنفسنا في عالم شخصية “ميارى” المهتمة بعالم الفايروسات وتأثيرها على حياة البشر قبل أن تصاب بمرض “السأم” نتيجة الحجر الصحي الشامل الذي أقرته السلطات السياسية والذي دفعها نحو البحث عن أسباب هذا المرض في الروايات والكتب وخاصة رواية السأم لألبرتو مورافيا، وتارة أخرى نجد أنفسنا في عالم شخصية “كوشمار” هذا الذي ترحل جسده بين عدة أسماء (عماد/ عبدالباقي/ كوشمار) والذي حول بيته إلى مرسم للرؤوس المذبوحة التي تم تقطيع أوصالها وعزلها عن الجسد في جبال الشعانبي ومغيلة التونسية، وذلك في ضرب من المقاومة، والمجابهة للصوص، وتجار الدم والموت. تمثل شخصية كوشمار الأفق الأول والأخير المتبقي لنا لندافع عن قيم الحب والسعادة والفن والحرية لأن التاريخ يعلمنا دوما “أن الإنسانية كلما انحدرت نحو الهاوية تمكنت من التحديق جيدا في الظلام، وأن الشعوب تتقن دوما اختراع أشكال جديدة من الكينونة كلما استولى على وجودها الخراب”، فبعد أن تحولت الجبال من استعارة حية للجمال والشعر والحب والحرية إلى استعارة ميتة ومشهد قبيح يذبح فوقه الفقراء والمساكين تحت راية الله، وبعد أن صارت البلاد لعبة في أيادي السماسرة والتجار لم يبق لنا في هذا الخراب غير الفن بوصفه قوة اقتدار قادرة بشكل ما على حراسة الهشاشة التي تسكننا وحماية ما تبقى من كينونتنا التي غُرس في أرضها الشوك واستفحل المرض والطاعون في جسدها. جاءت رواية “طوفان من الحلوى… في معبد الجماجم” لتقول للفاسدين والإرهابيين والقتلة إننا نفجر النصوص والكلمات والسرد بدل تفجير الأجساد وقطع العناق والرقاب، وأننا نمارس العنف على جسد الكتابة بدل العنف على أجساد الناس، فالرواية تؤكد مقولة أرتو “ليس لدي ما أقول غير عنف الكتابة” كما تؤكد أيضا ما قاله جاك دريدا على لسان جانكيليفتش “مات الصفح، في معسكرات الموت”. فالصفح والغفران والمغفرة والتسامح كلها مفاهيم قد ماتت في مرتفعات الجبال وبين الأشجار وفي عمق الوُدْيان، لقد وقعنا عملية كنسها من أذهاننا لحظة ذبح الجنود والتنكيل بهم وعند هلاك عاملات الفلاحة في طريق الموت وحين ماتت الملائكة في المستشفيات وحينما صار الحلم أمرا مستحيلا في بلادنا. وبالتالي فإنه لم يبق لنا ما يقبل الصفح وما يقبل التقادم، لا يوجد فينا الآن غير الحلم الذي زرعته شخصية كوشمار بكل الجماجم والرؤوس المذبوحة التي توجد في مرسمه والتي سنصنع منها يدا نصفع بها وجوه الإرهابيين والسياسيين والتجار والقتلة وخازوقا لكل من ساهم في التخريب والعنف والتسفير وسنشكل من الجماجم أيضا أكياسا من الحلوى نهديها لكل أطفال العالم كآخر توقيع لحراسة الأحلام التي أرادوا قتلها.
مشاركة :