ألقت الحرب الروسية الأوكرانية بظلال قاتمة على الاقتصاد العالمي، وأدت إلى تسارع معدلات التضخم، مدفوعاً باختناق سلاسل التوريد، وارتفاع أسعار الطاقة والأغذية والمعادن، وساهمت في تقويض الانتعاش في جميع أنحاء العالم. ومع اتساع نطاق الحرب، التي اندلعت في 24 فبراير الماضي، قد يزداد النمو العالمي تباطؤاً والتضخم ارتفاعاً بفعل فرض المزيد من العقوبات على قطاع الطاقة الروسي، في حين قد يتسبب ارتفاع الأسعار في ضغوط على ميزانيات البلدان النامية والمستوردة للمواد الخام. ونظراً للتأثيرات المباشرة للحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها العالمية، خفّض صندوق النقد الدولي مؤخراً توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي للمرة الثانية هذا العام، ورجح نمواً عالمياً 3.6% في 2022 و2023، بانخفاض 0.8 و0.2 نقطة مئوية عن توقعاته الصادرة في يناير. وهذه التوقعات تطال 143 دولة حول العالم. وما فاق أوجاع الاقتصاد العالمي أن الحرب في أوكرانيا جاءت في وقت كان يكافح فيه للتعافي من جائحة كوفيد-19، والتي قلّصت النمو العالمي. النمو العالمي وفقاً للتوقعات المحدّثة التي نشرها صندوق النقد الدولي خلال اجتماعات الربيع لصندوق النقد والبنك الدوليين، فإنّ الاقتصاد العالمي سينمو في 2022 بنسبة 3.6% مقابل 4.4% توقّعها الصندوق في يناير. وبالنسبة للاقتصاد الأميركي، الأكبر في العالم، فإن الناتج المحلّي الإجمالي، سينمو هذا العام بنسبة 3.7% تراجعاً بنحو 0.3 نقطة بالمقارنة مع التوقعات السابقة. أما الصين، ثاني قوة اقتصادية في العالم، فيعاني اقتصادها من سياسة عدم التساهل مع جائحة كوفيد التي أدّت إلى فرض قيود عديدة، بما في ذلك في شنغهاي، العاصمة الاقتصادية للبلاد، ومن هنا توقّع الصندوق أن ينخفض النمو الاقتصادي في الصين إلى 4.4% متراجعاً 0.4 نقطة بعدما سجّل العام الماضي 8.1%. وإذا كان النمو المتوقع في الناتج المحلّي الإجمالي في أكبر اقتصادين في العالم سيتباطأ ببضعة أعشار النقاط، فإنّ التراجع سيكون أكبر بكثير في دول منطقة اليورو، بنحو 2.8% مقابل 3.9% في التوقعات السابقة في يناير. وبحسب التوقّعات المحدّثة للصندوق، فإنّ المحرّك الاقتصادي للمنطقة، ألمانيا، التي تعتمد بشكل كبير على روسيا في إمدادات الطاقة، سيتباطأ النمو الاقتصادي فيها بنسبة 1.7 نقطة إلى 2.1%. وعزا الصندوق هذا التراجع الكبير إلى أنّ الألمان «هم مستوردون للطاقة، وبالتالي فإنّ ارتفاع الأسعار العالمية يمثّل صدمة سلبية». وفي فرنسا يتوقّع الصندوق تراجع النمو إلى 2.9%، أما في إيطاليا فالنسبة الجديدة المتوقعة هي 2.3%. أما روسيا فسيشهد إجمالي ناتجها المحلّي هذا العام انكماشاً بنسبة ضخمة تناهز 8.5%، بحسب التقرير. وإذا كانت هذه هي حال روسيا فإنّ حال أوكرانيا أسوأ بأضعاف، إذ توقّع الصندوق أن يتقلّص الناتج المحلّي إجمالي هذا العام بنسبة تصل إلى 35%، بالنظر إلى الدمار الذي أدّى لفرار ملايين السكّان. تسارع التضخم ساهمت الحرب في أوكرانيا إلى تسارع معدلات التضخم، والذي أصبح خطراً واضحاً وقائماً على العديد من البلدان حول العالم، إذ تُعد روسيا وأوكرانيا مصدّرين رئيسيين للعديد من السلع الأساسية، بما في ذلك الغاز والنفط والفحم والأسمدة والقمح والذرة والزيوت النباتية. كما تعتمد العديد من الاقتصادات في أوروبا وآسيا الوسطى والشرق الأوسط وأفريقيا اعتماداً شبه كامل على روسيا وأوكرانيا للحصول على وارداتها من القمح. وكان من أكثر الآثار العالمية للحرب وضوحاً تسارع الارتفاع في أسعار الطاقة والمواد الغذائية، والذي أثار المخاوف من حدوث نوبات من شُح الغذاء، وتزايد مخاطر سوء التغذية والقلاقل الاجتماعية في البلدان الفقيرة. وتوقّع صندوق النقد الدولي أن تبلغ نسبة التضخّم هذا العام في الدول المتقدّمة 5.7% ارتفاعاً بنحو 1.8 نقطة و8.7% بزيادة 2.8 نقطة في الاقتصادات الناشئة والنامية. وإذا كان التقرير يتوقّع أن تصل الأسعار إلى ذروتها هذا العام، فإنّ هذا لا يعني أنّ الوضع في 2023 سيكون وردياً، إذ يتوقّع الصندوق أن يظلّ التضخّم مرتفعاً كثيراً في الدول النامية والناشئة 6.5%، وأن يظلّ أعلى من أهداف البنوك المركزية في الدول المتقدّمة. ووفق منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة «فاو» ارتفعت الأسعار العالمية للمواد الغذائية بنسبة 33.6% في شهر مارس مقارنة بالعام السابق. وفيما يتعلق بالبلدان الأقل دخلاً، قد يؤدي اضطراب الإمدادات، بالإضافة إلى ارتفاع الأسعار، إلى زيادة التعرض لخطر الجوع وانعدام الأمن الغذائي، وقد يتسبب اضطراب سلاسل الإمداد في تفاقم الضغوط التي تنجم عن التضخم على نطاق واسع. ففي أفريقيا على سبيل المثال، فإنه من بين 54 دولة في القارة السمراء هناك 12 دولة مصدرة للنفط وباقي البلدان مستوردة للمحروقات، وبالتالي تضررت من ارتفاع أسعار الطاقة، فضلاً عن انعدام الأمن الغذائي. وتسبب ارتفاع أسعار الغذاء والوقود في «إجهاد» ميزانيات الأسر العادية، فالأسعار المرتفعة يمكن أن تؤدي إلى تآكل قيمة الأجور والمدخرات الحقيقية. تزايد المديونيات لأن توقعات التضخم آخذة في الارتفاع وقد تظل عند مستويات مرتفعة، فإن تشديد السياسة النقدية في الاقتصادات المتقدمة سيستمر لفترة ليست بالقصيرة، لكبح جماح التضخم. غير أن مكافحة التضخم من خلال تشديد السياسة النقدية أدت إلى زيادة تكلفة خدمة الدين، بالنسبة للبلدان منخفضة الدخل. وحسب تقرير صندوق النقد الدولي، وصل عبء الديون إلى 50% من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا يضع 60% من هذه البلدان إما في حالة مخاطر كبيرة من المديونية الحرجة، أو وصلت إلى هذه الحالة بالفعل. كما تعاني 20 دولة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى من ضائقة ديون. ورغم هبوط معدلات العجز والديون العالمية من مستويات قياسية، لا تزال المخاطر المحيطة بالآفاق عالية إلى درجة استثنائية ومواطن التعرض للمخاطر آخذة في التصاعد. ويُتوقع هبوط الدين العام العالمي في عام 2022 ثم استقراره عند نحو 95% من إجمالي الناتج المحلي على المدى المتوسط، أي بارتفاع قدره 11 نقطة مئوية مما كان عليه قبل الجائحة، وفق تقرير للبنك الدولي. وساعدت ارتفاعات معدلات التضخم المفاجئة الكبيرة في 2020–2021 على تخفيض نسب الدين، ولكن تكاليف الاقتراض السيادي سترتفع مع تشديد السياسة النقدية لكبح التضخم، مما يُضَيِّق النطاق المتاح للإنفاق الحكومي ويزيد مواطن الانكشاف لمخاطر الديون. مخاطر الاستقرار المالي تواجه الأسواق الناشئة الآن مخاطر أعلى لتدفقات رأس المال الخارجة، مع التفرقة بين البلدان المستوردة للسلع الأساسية ومصدريها. ووسط حالة عدم اليقين الجيوسياسي، من المرجح أن يؤدي التفاعل بين الظروف المالية الخارجية الأكثر تشدداً وقيام الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، بأول زيادة في أسعار الفائدة الشهر الماضي وتقليص حيازاته من السندات من المتوقع أن تكون أسرع، إلى زيادة مخاطر هروب رأس المال. في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، ارتفع عدد مُصدري السندات السيادية في الأسواق الناشئة، الذين يتداولون عند مستويات متعثرة (أي فروق أسعار تزيد على 1000 نقطة أساس) إلى أكثر من 20% من المُصدرين، متجاوزاً مستويات ذروة الوباء. وعلى الرغم من أن هذا مثير للقلق، إلا أن تأثيره محدود على المخاوف النظامية، نظراً لأن هؤلاء المُصدرين يمثلون نسبة أقل نسبياً من إجمالي الديون المستحقة حتى الآن. تراكمت في الاقتصادات حول العالم طبقة تلو أخرى من تركات الصدمات السابقة منذ الأزمة المالية العالمية. وأدت الإجراءات المالية الاستثنائية التي اتُخِذَت في مواجهة الجائحة إلى صعود معدلات عجز المالية العامة والدين العام في 2020. وعلاوة على ذلك، ظلّت الآفاق مُحاطة بأجواء عدم اليقين، بينما كان العالم يخوض غمار بيئة غير مسبوقة، سادها ارتفاع التضخم وزيادة التباعد بين مسارات التعافي، ثم جاءت الحرب الروسية الأوكرانية، فدفعت المخاطر الجيوسياسية نحو الارتفاع بصورة حادة. المالية العامة لم تسلم الاقتصادات المتقدمة، من تداعيات الحرب في أوكرانيا حيث سيتحول مسار السياسات الاقتصادية من دعم الجائحة إلى التحول الهيكلي. وتواجه آفاق المالية العامة في أوروبا أجواء استثنائية من عدم اليقين نظراً للحرب وتداعياتها. وسوف تضيق معدلات العجز في معظم الِأسواق الصاعدة، ولكن مع تفاوتات كبيرة عبر البلدان. والبلدان منخفضة الدخل، التي تعاني من مشاكل بسبب الجائحة، لديها حيز مالي محدود للغاية نتيجة للأضرار الشديدة التي أصابتها من جراء تداعيات الحرب. وجلبت الصدمات المختلفة كذلك مخاطر جديدة على الموارد العامة. فالحكومات تتعرض لضغوط إزاء التعامل مع ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء. ولتخفيف العبء عن الأسر، وضمان تحقيق الأمن الغذائي، والحيلولة دون إثارة قلاقل اجتماعية، أعلنت معظم الحكومات اتخاذ تدابير للحد من ارتفاع الأسعار المحلية. ومع هذا، يمكن أن تترتب على هذه الإجراءات تكاليف كبيرة تتحملها المالية العامة وتفضي إلى تفاقم عدم الاتساق بين العرض والطلب في العالم، وتفرض مزيداً من الضغوط على الأسعار الدولية، وربما أدت إلى نقص في الطاقة أو الغذاء. وسيزيد ذلك من الأضرار التي لحقت بالبلدان منخفضة الدخل التي تعتمد على استيراد الطاقة والغذاء. تواجه الحكومات اختيارات صعبة في هذه البيئة التي تكتنفها درجة كبيرة من عدم اليقين. وينبغي أن تركز على أكثر احتياجات الإنفاق إلحاحاً وعلى تعبئة الإيرادات لأدائها.
مشاركة :