قال الشّاعر الحكيم: وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بَّدً يوماً أن ترد الودائع أكتب هذا الرّثاء القصير عن والدتي -رحمها الله وأسكنها فسيح جناته فقد - أملاه عليِّ الواجب، ورحب به العقل، وسطَّره القلم وساندته الجوارح وتمليه العواطف والمشاعر والأحاسيس، فقد خيم الغم، وساد الهمَّ، واشتد الكرب، وضاقت أبواب السَّبل، وبارت أنواع الحيل في تلك اللحظات المحزنة والمفجعة فإن اللِّسان يقف حائراً وعاجزاً عن التّحدث، حيث تعجز الكلمات والعبارات والمفردات اللُّغوية عن التّعبير عما تجول به النَّفس البشريَّة وتكون العيون غارقة بالدموع تذرف دمعاً حاراً وعبرات يلفها الحزن والألم ويقف العقل حائراً متألماً والقلم ساكناً لا يتحرك ولا يعبر عن هذه الحياة المليئة بالمسرات والأوهام والأحزان والمصائب والمكائد والأهوال وغير ذلك من الأمور المؤلمة، فأخذت اردَّد هذه الآية الكريمة {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} إن من أصعب الأمور التي تقابل الإنسان في حياته حينما تلح عليه مشاعره وأحاسيسه للكتابة رثاء لفقيد يمثل الشّيء الكثير والكثير له فكيف يكون الحال عندما تكون هذه الفقيدة والدتك - فالحمد لله الَّذي لا يحمد على مكروه سواه والصَّلاة والسلام على أشرف خلقه المبعوث هدى ورحمة للعالمين - فقد جعل الله سبحانه وتعالى الموت أمراً محتماً على سائر المخلوقات، وهذا حال الدُّنيا لا بقاء لها لأحد ولا دوام. ويقول الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم- {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} سُورة الأنبياء آية (35). وقال جلَّ شأنه - {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} سورة الفجر آية(26-30). فكلنا يؤمن إيماناً قاطعاً بالقدر خيره وشره وما يحدث لنا في هذه الحياة الدُّنيا من أمور مفرحة أو محزنة ماهي إِلًّا بقدر الله ومشيئته - وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} سورة التكوير آية (29). حيث إن الموت حق مشترك بين العباد كلهم، حيث كتبه المولى عزَّ وجلَّ - ذكره على كل كائن حي بدون استثناء كما قال تعالى- {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} سُورة الرَّحمن 26-27). ولكن من طبيعة العباد أنهم يتألمون كثيراً ويتأثرون كذلك من أيِّ تيارات تحمل بين طياتها وجنباتها من شتَّى أنواع المنغصات من حزن وألم وعناء ونكد حينما يفاجؤون بفقد قريب أو عزيز أو صديق.. وهكذا فهذه غرائز أودعها رب العباد في نفوس البشر وفطرهم عليها. وقال تعالى في محكم كتابه الكريم: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} سُورة البقرة 155-156). فهذه سنة الله في عباده وأن المرء لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، وأن حلول أجله قادم لا محالة فهو في هذه الحياة عابر سبيل. فقد قال الشّاعر الحكيم: الموت باب وكل النَّاس داخله فليت شعري بعد الموت ما الدار فقد قال أحد السّلف ثمانية أمور تمر على كل واحد مِّنَّا في هذه الحياة الفانية سرور وهمَّ واجتماع وفرقة وعسر ويسر ثم سقم وعافية وصحة ولا شك أن فقدان الوالدين أو الأقارب أو الأخوة أو الأحبة أمر مؤلم ومزعج فهو ثقيل على السّمع والقلب فالواجب على كل واحد مِّنَّا أن يصبر ويحاول أن يردَّد قوله تعالى عزَّ وجلَّ {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} في كل لحظة وحين وبذلك فهي تسكن القلوب وتطمئن النفوس - وبعد هذا وذاك أدركت تمام الإدراك أن المصائب كنوز الرغائب.. وعلمت أن الإيمان بقضاء الله وقدره له دور كبير في طمأنينة النَّفس البشريَّة والقلب عند المحن والمصائب، خصوصاً إذا علم العبد تماماً أن الله سبحانه وتعالى - لطيف بعباده يريد بهم اليسر. بقلوب يملؤها اليقين راضية بالقدر المحتوم لقد انتقلت والدتي/ حصَّة بنت عثمان بن محمَّد الفهد إلى جوار ربها مساء يوم الاثنين 17-9-1443هـ الموافق 18-4-2022م يرحمها الله - بمستشفى (سند) بعد تعرضها لأزمة قلبية مفاجئة في وقت قصير. فهذه أقدار الله.. نرضى بها ونسلم مؤمنين تمام الإيمان أن الموت قدرنا جميعاً صغيرنا وكبيرنا وأننا أموات أبناء أموات، وأن هذه الحياة عناء ونكد وكدر ومشقَّة كلها كما قال الشّاعر الحكيم - العباسي أبو الحسن التهامي: حكم المنية في البرية جار ما هذه الدنيا بدار قرار بينما يرى الإنسان فيها مخبراً حتى يرى خبراً من الأخبار طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار ومكلف الأيَّام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار فالعيش نوم والمنية يقظة والمرء بينهما خيال سار فاقضوا مآربكم عجالاً إنما أعماركم سفر من الأسفار إني وترت بصارم ذي رونق أعددته لطلابه الأوتار والنَّفس إن رضيت بذلك أو أبت منقادة بأزمة الأقدار يا كوكباً ما كان أقصر عمره وكذاك عمر كواكب الأسحار إن يحتقر صغراً فرب مفخم يبدو ضئيل الشّخص للنظار إن الكواكب في علو محلها لترى صغاراً وهي غير صغار ولد المعزى بعضه فإذا انقضى بعض الفتى فالكل في الآثار أبكيه ثم أقول معتذراً له وفقت حين تركت الأم دار وبعد هذه الأبيات تذكرت أن الفواجع وفقد الأحبة ورحيلهم عن هذه الدُّنيا - ازددت قناعة تامة أن هذه الحياة ديدنها الكدر والنكد وطابعها الفقد والرَّحيل. سوف أتطرق إلى سيرة والدتي يرحمها الله ولو بشكل مختصر: فكانت -رحمها الله - تحرص كل الحرص على طاعة الله أوَّلاً منذ فجر حياتها ونعومة أظفارها حافظة لحقوق زوجها الشيخ/ صالح بن محمَّد بن صالح الصالح -رحمه الله وأسكنه فسيح جناته - فقد غرست في نفوس أبنائها الاحترام والتّقدير حتى أصبحت بعد الله لهم ملاذاً يلجؤون إليه في كل وقت وحين. كانت - رحمها الله - تحب البذل والعطاء في أوجه البر والإحسان، طيبة المعشر مع أقاربها وأرحامها ومعارفها وجيرانها فهي تسعى دائماً على مد يد العون والمساعدة للفقراء والمساكين والمحتاجين من الأرامل والعجزة والأيتام. وعلى الرغم من أميتها إلا أنها تحفظ شيئاً من كتاب الله عن ظهر قلب - فهي كثيرة الصِّيام والقيام مداومة على الصَّلوات في جوف اللَّيل حتَّى قبيل صلاة الصّبح - فهي تسكن قلوب أفراد أسرتها وأحفادها. كانت - رحمها الله - في ذلك الزّمن الجميل عصامية تعمل بجد ونشاط وهمَّة داخل منزلها وتشارك والدي على بعض أعمال الفلاحة وتقوم بخدمة جدِّي وجدِّتي -رحمها الله - إلى جانب متابعة الأبناء بالرّعاية والاهتمام وكذلك متابعة أعمال المنزل من شتَّى جوانبه منذ أن كنا في مزرعة جدِّي ببلدة "عَرِقَة" التي تدعى "نبعان" الواقعة في الجهة الجنوبية الغربية. فكذلك تعطف على الأطفال الصِّغار قبل الكبار وتهتم بالغريب قبل القريب فهذا المستوى من الخُلق الرّفيع حيث جذب إليها كل من يعرفها فهي لا تتردَّد يوم من الأيَّام في زيارة المريض وصلة الأرحام وتشارك الناس أفراحهم وأتراحهم على حد سواء. فقد أجاد الأستاذ/ أحمد المرشد -وفقه الله - في تلك الأبيات التي صاغها بأسلوب جميل يعبر عن مدى حبه وتقديره واحترامه لعميدة أسرة الصَّالح. فقد قال: خُلُقٌ جميلٌ زَانها وبيتها مأوى الأحبة رَحَلتْ بِذِكرٍ خالدٍ يُدعى لها في كل لحظة والضيفُ يأنسُ عندها تلقاه دوماً بالمودة في الخير تَبذِلُ مالها تُعطي بلا مَنٍّ وكُلفة وللكبار دُعاؤها حُباً وتقديراً وبهجة حتى الصغار تعودوا وتأثروا بالأم حصة فلتهنأوا يا أهلها فلأمكم ذِكْرٌ وعِزة يا ربِ أكرم نُزْلَها ونقها من كل زلة واكتب لها أجراً عظيماً وهب لها يا رب رحمة وبعد نهاية هذه الأبيات الجميلة أخذت أتأمل في محتواها البليغ فوجدت أن للكلمة سحرها العجيب وأثرها البليغ وهدفها البعيد وصداها العميق على السّمع والعقل والفؤاد. وكان منزلها العامر محضاً دافئا لأبنائها وبناتها وأحفادها وأقاربها ومجيبها ولا سيما.. خلال يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع في جو أخوي يسوده الود والاحترام والتّقدير بوجودها مع الإنصات إلى حديثها الشيق وتوجيهاتها ونصائحها. وقد أديت عليها الصَّلاة مساء يوم الثُّلاثاء 18-9-1443هـ الموافق 19-4-2022م بجامع الملك خالد -رحمه الله - بأم الحمام الذي اكتظ بجموع غفيرة من المصلِّين رجالاً ونساءً ثمَّ تحرك جمع غفير خلف جثمانها الطّاهرة بصورة مهيبة إلى مقبرة "عَرِقَة" وألسنتهم تلهج بالدّعاء والرحمة والمغفرة والثّبات على روحها بأن يغفر الله لها جميع خطاياها وزلاتها وعثراتها وأن يتسامح عنها. ومن خلال أيَّام التّعزية لا يزال منزلها العامر مكتظاً بالمعزين الَّذين قدموا من كل حدب وصوب إنهم يعرفون مآثرها الطيبة وسيرتها الحسنة ستبقى خالدة - بإذن الله- في نفوس الأبناء والبنات والأحفاد فقد أحدث غيابها عن المنزل فجوة واسعة ليس من اليسير ردمها من الذاكرة فإن ذكرها الطيب وأعمالها ومواقفها مع أفراد الأسرة كافَّة، باقية ولا يسعهم في هذا المقال القصير إلَّا أن يقدموا شكرهم وتقديرهم الجزيل لمن واساهم حضورياً أو عبر الهواتف المتحركة من أماكن بعيدة داخل البلاد أو خارجها من أقارب وأرحام وأحبة وجيران ممَّا خفف عنهم جميعاً وطأة الحزن والألم، وجزاهم الله عنهم خير الجزاء اللَّهُمَّ أغفر لها وأرحمها وعافها وأعف عنها وأكرم نزلها ووسع مدخلها، وأغسلها بالماء والثّلج والبرد، ونقها من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدلها داراً خيراً من دارها وأهلاً خيراً من أهلها وزوجاً خيراً من زوجها وأدخلها الجنَّة، وأعذها من عذاب القبر ومن عذاب النَّار، وألهم أبناءها وأحفادها وأسرتها الصّبر والسّلوان. ** **
مشاركة :