في الأشهر الأخيرة، وخصوصاً منذ بداية تحركات إلون ماسك لشراء تويتر، وأنا منهمك بدراسة معمقة لهذا الرجل، عدت لمشاهدة أغلب مقابلاته في السنوات الأخيرة، وتصريحاته الصحافية وجزء كبير من تغريداته. ماذا يريد فعلياً أغنى رجل في العالم من شراء تويتر؟ وما حاجته منه؟ كنت أحاول البحث عن إجابة شافية لهذا السؤال، فلم تعجبني الكثير من التحليلات والآراء إزاء هذا الموضوع، ولا أعتقد أنه لا يعدو أكثر من رجل فاحش الثراء يريد شراء لعبة جديدة فقط لأنه يستطيع ذلك في حين فشل الآخرون، كما ذهبت الكثير من التحليلات والتعليقات لمنتقديه ومحبيه على حد سواء، أو أنه يريد زيادة ثروته.. حتى التحليلات والنظريات السياسية عن كونه يريد الانتصار لحرية التعبير - مع كل الاحترام والتقدير لفكرة حرية الرأي - إلا أنّها ليست كافية أو مقنعة بالنسبة لي، وربما لا تكون أكثر من محاولة لذر الرماد في العيون. ولا شك عندي من أنّ ماسك سوف يحاول أن يجعل من تويتر منصة فعلية لحرية التعبير وأكثر مما هي عليه الآن، وربما ينجح في أن يخلق الانطباع عند أغلب الناس أنّ تويتر فعلاً أصبحت منصة شفافة وحريصة على «حرية التعبير»، ولكن ربما يكون اهتمام ماسك الأساسي هو الشق الثاني من المعادلة «التعبير» بدلاً من «الحرية»، فهذا كان واضحاً من انتقاداته المتكررة لتويتر، فهو يعتقد - وهو محق بذلك - أن أصحاب الحسابات على تويتر فقط يتابعون ولا يغردون، أي أنهم لا يريدون التعبير عن أفكارهم، ملاحظه تبدو بظاهرها حريصة على الديمقراطية وحرية الرأي وفي باطنها تفصح عن حاجة ماسك للحقيقة. فما هي حاجة ماسك الملحة والعملية من تويتر؟ الريادي والمبتكر إلون ماسك أنشأ وشارك في إنشاء عدة مشاريع أشهرها تيسلا Tesla شركة السيارات الكهربائية الآن، ومستقبلاً ذاتية القيادة، وشركة الفضاء إكس سبيس SpaceX، وشركة الذكاء الصناعي أوبين آل OpenAI والشركة الأكثر جرأة وربما تأثيراً على مستقبل الإنسان على هذا الكوكب مستقبلاً نيورالينك Neurallink، فهي تحاول تصميم جسر مباشر يربط بين دماغ الإنسان والآلة، أو الأجهزة، وبالتالي الذكاء الصناعي. صحيح أن نجاح هذا المشروع قد يتيح علاج الكثير من الإصابات والأمراض التي يتعرض لها الإنسان، ولكن الحلم الحقيقي، كما صرّح ماسك سابقاً، هو أن يكون هناك دمج مباشر للإنسان مع الذكاء الصناعي، بالتالي مستقبل إنسان مطور أو إنسان شبه آلي يتمتع بالذكاء الطبيعي للإنسان والذكاء اللامحدود للخوارزميات والبيانات الضخمة. سواء تحدثنا عن هذا المشروع أو مشاريع إلون ماسك الأخرى، فمستقبلها ونجاحها يعتمدان على تطوير الذكاء الصناعي، والذي بالضرورة يحتاج ليتدرب على قواعد بيانات ضخمة Big-data وهذا ما سيحصل عليه إلون ماسك من استحواذه على تويتر. سيحصل ماسك على قاعدة بيانات عملاقة جداً لتغريدات الملايين بكل تفاصيلها، وهناك أيضاً ما سيكون أكثر قيمة لمشاريعه من قاعدة بيانات ضخمة، ألا وهو قناة تبث بشكل آني، دائم ومباشر تياراً من الأفكار والأقوال والآراء بلغات متعددة على شكل تغريدات. تخيلوا معي ما نوع الذكاء الصناعي والقدرة على التدريب والتعلم لهذا الذكاء الآلي الذي سيحصل عليه إلون ماسك ومشاريعه..! هذا من جهة، أما من الجهة الأخرى، ربما يريد إلون ماسك أن يتطور من مجرد مالك لمجموعة من الشركات والمشاريع الريادية للمستوى الأعلى، فالتحول الرقمي في العقدين الماضيين خلق مستوى ونوعاً مختلفاً من الشركات، بل ربما نسميه كائناً اقتصادياً جديداً لم يشهده العالم من قبل، فكلمة شركة، حتى لو قلنا عنها إنها كبيرة وعابرة للحدود، تبقى قليلة وقاصرة عن التعبير على مثل هذه الكينونات الاقتصادية التقنية. في عالم التقنية والاقتصاد، وفي إطار التحول الرقمي، هناك تصنيفات للمنتوجات الرقمية والاقتصادية، هناك سلع، وهناك منتجات وخدمات، وهناك المنصات Platforms والكائن الجديد والمكانة التي يسعى إليها كل من يريد البقاء والاستمرار في المنافسة والبقاء هو الإيكوسيستم Ecosystem، فمثلا كمبيوتر أبل Apple هو منتج، ومتجرها للتطبيقات الآيفون والآي باد هو منصة Platform، ولكن أبل بمنتجاتها ومنصاتها وخدماتها المختلفة هي Ecosystem. بلغة أخرى هي نظام اقتصادي يشبه النظام البيئي كذلك الذي نراه في الطبيعة، مكون من كائنات (منتجات وخدمات) تعتمد على بعضها بعضاً، وتحتاج إلى بعضها بعضاً للبقاء والاستمرار، إما بمساعدة بعضها بعضاً أو حتى بافتراس بعضها بعضاً. أبل ليست الوحيدة في هذه المرتبة، فهناك غوغل، ومايكروسوفت وأمازون كأمثلة واضحة للـ«البيئة التقنية». أغلب هذه الشركات عندها منتجات إما مجانية أو بأسعار رمزية مثل محرك البحث لغوغل، ولكنها أيضاً تقدم خدمات ومنتجات بآلاف، وأحياناً ملايين الدولارات، كخدمة الحوسبة السحابية على سبيل المثال. حتى قبل شراء تويتر كان لدى إلون ماسك بوتقة من الشركات الناجحة والمشاريع الريادية الواعدة، ولكن لم يكن يوجد عنده نظام اقتصادي Ecosystem حقيقي، يمكنه بقدرته جلب اهتمام من لا يستطيع شراء سيارة تسلا الكهربائية أو من يستطيع شراء خدمة رحلة سياحية للفضاء مستقبلاً، ويحوله لزبون يستطيع بيعه أكثر مستقبلاً، على الأقل الآن، وبعد امتلاكه تويتر، سيكون عند ماسك ملايين الملايين من العملاء، من يستخدمون تويتر، حتى وإن كان مجّاناً أو بسعر رمزي. يقول علماء النفس الاقتصادي إنّ أصعب شيء هو أن تحوّل شخصاً عادياً إلى زبون مشترٍ، ولكن إن أقنعته أولاً أن يشتري منك أي شيء بمبلغ زهيد سيصبح أسهل جداً في المستقبل أن تبيعه منتجاً أو خدمة بمبلغ باهظ. فهل ينجح ماسك بمسعاه بالتحوّل إلى الرجل الأكثر قوّة وتأثيراً في العالم بعد ما أصبح الرجل الأكثر شهرة وثراء في العالم..! وهل سيقنع المغرّدين على تويتر، ومن سينضمون لتويتر مستقبلاً، بأن يصبحوا جزءاً من نظامه الاقتصادي الشامل الذي يسعى لتصميمه وبنائه..! طباعة Email فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :