50 عاماً في حياة الملك عبدالعزيز ..تشريعات إدارية ترسّخ القيم الاجتماعية تحت مظلة الدولة العصرية

  • 9/22/2021
  • 11:14
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

لم تكد تنته العقود الخمسة التي قضاها جلالة الملك عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ في مسيرة التوحيد انطلاقاً من فتح الرياض 1319 هـ حتى وافاه الأجل عام 1373 هـ ، حتى كانت المملكة العربية السعودية دولة عصرية في كل أنظمتها وتشريعاتها مع المحافظة على القيم الدينية والاجتماعية لكل فئات المجتمع – المتعدد الثقافات – الممتد من الخليج العربي إلى البحر الأحمر. وبشهادة المؤرخين الذين عاصروا الملك عبدالعزيز فقد تميز برؤية استشرافية بعيدة المدى مع إلمام واسع بما يدور في العالم من تطورات وأحداث سياسية واقتصادية ، ما منحه القدرة على بناء دولة عصرية في مساحة جغرافية واسعة كان لها نظمها القبلية الخاصة بحكم استقلالها الدائم وعدم خضوعها لأي استعمار أجنبي. ولأن الأمن أساس أي نهضة أو حضارة فقد كان أول اهتماماته ـ رحمه الله ـ تركيز دعائم الاستقرار والسلم الاجتماعي من خلال منح أمراء الأقاليم بعض الصلاحيات التي تمكنهم من تطبيق الشريعة الإسلامية وحفظ الأمن ومساعدة عمال الزكاة. ويشير مؤلف كتاب ” تنظيمات الدولة في عهد الملك عبدالعزيز 1343- 1373هـ” الدكتور إبراهيم بن عويض العتيبي إلى أن التدرج في استخدام الألقاب الرسمية للملك عبدالعزيز من “سلطان نجد وملحقاتها” إلى ” ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها” ثم ” ملك الحجاز ونجد وملحقاتها” إلى أن وحد المملكة عام 1351هـ/1932باسم “المملكة العربية السعودية “يصور إلى حد بعيد الظروف التي مرت بها الإدارة في عهد الملك عبدالعزيز خير تصوير “إذ تدرجت من التجزئة الإقليمية إلى الوحدة المركزية المطلقة فكلما اتسعت الدولة رافق ذلك تغيير في لقب الحاكم “. وأسهمت الرؤية المستقبلية الخلاقة التي امتلكها الملك عبدالعزيز في الاستفادة من الأنظمة العربية والأوربية التي كانت سائدة وهي التي أسماها الدكتور العتيبي في كتابه”الروافد الخارجية ” التي وضعها الملك عبدالعزيز أمام مجالس الدولة الاستشارية علاوة على وجود مستشارين من جنسيات متعددة في بلاطه ولكن آراء أولئك المستشارين والاقتباس من تلك النظم أخضعها الملك عبدالعزيز للتشريع الإسلامي ولمصلحة البلاد وحاجتها. المشاركة الأهلية في بداية دخول الحجاز تحت حكم الملك عبدالعزيز حرص على مشاركة الأهالي في الإدارة مع وضع هياكل إدارية تتمشى مع التغييرات والتبدلات السياسية ونظراً لأهمية إدارة الحجاز فقد عين ابنه فيصل نائباً عنه في الحجاز. ثم قام بإصلاحات إدارية وتنظيمية في مجالات القضاء والمحاكم وشؤون الحرمين والأوقاف والمساجد والمؤسسات الدينية ، والأمور الداخلية مثل الأمن العام والبرق والبريد والصحة العامة والبلديات والأشغال والتجارة والزراعة والصناعة والمعادن والمؤسسات الخاصة ، إضافة إلى إصلاحات في الأمور المالية مثل إدارات الواردات والمنصرفات والجمارك والرقابة المالية ، أما الأمور العسكرية فهي مرتبطة بالملك مباشرة. إنشاء أربعة مجالس هي مجلس الشورى والمجلس الإداري ومجالس النواحي ومجالس القرى والقبائل ، كانت من أبرز التنظيمات الإدارية التي أمر بها الملك عبدالعزيز إضافة إلى تشكيل لجنة التفتيش والإصلاح في غرة محرم 1346هـ حيث كانت مهمتها مراجعة عامة للجهاز الإداري للدولة وتحسس مواطن الخلل فيه والعمل على إصلاحه وتنفيذاً لسياسة الملك عبد العزيز الهادفة إلى إعادة تنظيم أجهزة الدولة الإدارية لبسط السلطة على جميع مناطق دولته. لمراعاة الفوارق الإقليمية المختلفة أنشأ جلالته عدة أجهزة تنفيذية وإدارية منها النيابة العامة وهي المرجع العمومي لجميع دوائر الحكومة وأقسام إداراتها وكل واحد من مديري الدوائر ورؤسائها يكون مسؤولاً أمامها عن حسن جريان الأمور الداخلية في دائرة وظيفته وهي ـ أي النيابة ـ مسؤولة أمام صاحب الجلالة الملك، حيث بقيت النيابة العامة على هذا التشكيل إلى أن صدر نظام مجلس الوكلاء عام 1350هـ الذي ألغى النيابة العامة. وإضافة إلى النيابة العامة تم إنشاء “مجلس الوكلاء” وهو تطوير لفكرة المجلس التنفيذي الذي تشكل عام 1345هـ نتيجة لاقتراح لجنة التفتيش والإصلاح التي أوصت بتكوين مجلس تنفيذي من رؤساء الدوائر الحكومية في الحجاز لمساعدة النائب العام في مهامه التنفيذية وكان يقوم ببعض الوظائف التشريعية ويتولى الوظائف التنفيذية معاً. وكان الملك عبدالعزيز يعتبر الشورى أمراً واجباً في إدارته لذلك أمر بانتخاب أعضاء مجلس الشورى الذي كان تطويراً لمجلسين هما المجلس الأهلي والمجلس الاستشاري وتشكل أول مجلس من أعضاء متفرغين عام 1346 هـ مقره مكة المكرمة وبقي مجلس الشورى مهيمناً على معظم أعمال الدولة التشريعية والتنظيمية وخاصة في الحجاز إلى أن تأسس مجلس الوزراء الذي ضم خمس وزارات هي الخارجية والداخلية والمالية والصحة والمواصلات والمعارف. أسس بناء الدولة  كانت متطلبات الأمن من العوامل التي أثرت على التقسيم الإداري كما أن ظروف البيئة وصعوبة المواصلات والتوزيع السكاني علاوة على المؤثرات الأخرى زاد من إصرار الملك عبد العزيز على التقسيم الإداري. والمقاطعات الرئيسية قبل انضمام الحجاز خمس هي نجد والقصيم والأحساء ومنطقة عسير وحائل ثم جيزان ونجران وحائل وكان الملك عبدالعزيز يبعث بهيئات تفتيش إلى مختلف المناطق ويحرص على استعراض إنجازات الدولة الإدارية مع النائب العام في نهاية كل عام. كما عين أمراء على المقاطعات بلغ عددهم أربعة وستين أميراً كل منهم يتصرف في شؤون أمارته وفقاً لما يراه مناسباً للعادات والعرف السائد ما لم يرد فيه تعليمات من الملك إلى أن صدر نظام الأمراء والمجالس الإدارية في 13 /1/ 1359 هـ والذي حدد صلاحيات ومسؤوليات أمراء المقاطعات والمجالس الإدارية بصورة واضحة. “دستوري وقانوني ونظامي وشعاري دين محمد صلى الله عليه وسلم ” عبارة أكد عليها الملك عبدالعزيز في معظم خطاباته حيث كان يشير إلى أهمية تنظيم القضاء كون الشريعة الإسلامية أساس بناء الدولة إضافة إلى أنه كان ينظر إلى إشاعة العدل كأساس للاستقرار في ربوع دولته ولحفظ كيانها. وجاء التنظيم المالي للدولة في أعلى اهتمامات المؤسس حيث صدر في 11/4/1351هـ مرسوم ملكي بتأسيس وزارة للمالية في مكة المكرمة ثم أُلحق بها على فترات مختلفة عدد من الإدارات الحكومية مثل مصلحة الجمارك والخزينة الخاصة ووكالة الدفاع ومصلحة المعادن والأشغال العمومية وإدارة الأبنية وتعبيد الطرق ومصلحة سجل العلامات الفارقة ومالية الأحساء ، ونظراً للتطور الكبير الذي حدث في المملكة فقد استقلت بعض الإدارات وأسست أخرى جديدة تابعة لوزارة المالية وهي مصلحة الزكاة والدخل ومؤسسة النقد العربي السعودي. ويشير مؤلف كتاب “تنظيمات الدولة في عهد الملك عبدالعزيز” إلى أن التعامل النقدي في المناطق التي تشكلت منها المملكة كان يجري قبل توحيدها على تعدد العملات واختلافها باختلاف المناطق وتعددها ففي المنطقة الشرقية استخدمت العملة الهندية وفي المنطقة الجنوبية استخدمت النقود العثمانية والإنجليزية وفي نجد كثر تداول العملة النمساوية وغيرها من عثمانية وبريطانية وهندية وفي الحجاز سادت العملة العثمانية والهاشمية في التعامل هذا إلى جانب ما يجلبه الحجاج من عملات أقطارهم ولا شك أن هذا الخليط من العملات مع غياب عملة رسمية موحدة أدى إلى فوضى في التعامل وأثر على العمل التجاري والرسمي، ولذلك أصدر الملك عبد العزيز عام 1346هـ / 1927م أول نظام للنقد باسم “نظام النقد الحجازي النجدي المسمى بالنقد العربي” وتوالت بعده الإصدارات المالية من الريال العربي وفئاته من الفضة حتى أصبح في المملكة قاعدتان للعملة النقدية قاعدة المعدن ويمثلها الذهب والفضة وقاعدة العملة الورقية وهذا النظام النقدي كان له تأثير كبير على موازنة الدولة من حيث تقدير الواردات سواء كانت من الموارد المحلية أومن الجمارك على الواردات الخارجية أو من النفط المرتبطة أسعاره بالعملات الأجنبية. وشهدت الميزانية العامة تطورات مختلفة إلى أن صدرت ميزانية عام 1365هـ / 1945م وفيها بيانات تفصيلية بالمبالغ التي استحصلت من كل مورد وكذلك المبالغ التي اعتمدت لجميع الدوائر والمصالح الحكومية. حماة الوطن يسرد الدكتور إبراهيم العتيبي في دراسته التي بلغت 691 صفحة جوانب من إجراءات الملك عبدالعزيز لإنشاء جيش نظامي لحماية حدود بلاده المترامية الأطراف, حيث تشكلت وكالة الدفاع بأمر ملكي صدر في شهر جمادى الآخرة عام 1353هـ وربطت وكالة الدفاع بوزير المالية شخصياً ومن أبرز التنظيمات التي أنجزتها وكالة الدفاع هي إعادة تشكيل الوحدات وإعطائها أسماء تبين ملامح مهامها وطبيعة تكوينها ، وقبلها أنشئت المدرسة العسكرية بمرسوم ملكي عام 1348هـ. ويتضح أن بناء الجيش السعودي كان يسير بخطوات ثابتة ومتقنة أدت إلى اكتمال مقومات الأساسية من مراكز للتدريب ووحدات ميدانية نشرت في معظم مناطق المملكة فتطلب الأمر إلى خطوة ثالثة لرفع مستوى جهاز الإشراف الإداري فتأسست وزارة الدفاع بعد إلغاء وكالة الدفاع في 5 /11/ 1363هـ وعين صاحب السمو الملكي الأمير منصور بن عبدالعزيز وزيرا للدفاع ومفتشاً عاماً وفي عهده أخذت النهضة العسكرية تسير بسرعة فقد اهتم بالتعليم العسكري والتدريب في الداخل والخارج فاستقدم بعثتين بريطانية وأمريكية لتدريب الجيش وتوسع في الابتعاث لدراسة المتطلبات العسكرية التي لا يمكن تحقيقها في الداخل وأحدث تشكيل سرايا آلية ومتحركة وأسس ورشة للأسلحة وأخرى للنجارة ومطبعة للجيش وشرع في بناء المصانع الحربية وأنشأت النوادي العسكرية والمستشفيات العسكرية وفي ظل هذا التطور في القوات العسكرية واتساع تشكيلاتها وفروعها أعيد تسمية وزارة الدفاع في 7 /7/ 1371هـ إلى “وزارة الدفاع والطيران والمفتشية العامة للجيش” وأصبحت تضم الطيران الحربي والطيران المدني والبحرية. الأمن الداخلي مرت وزارة الداخلية بعدة مراحل تبعاً لتطور التشكيلات الحكومية فأنشئت لها فروعاً كثيرة من أبرزها “الأمن العام” وهو من الأمور التي أولاها الملك عبدالعزيز جل اهتمامه حيث يقول في منشور عام ” إن البلاد لا يصلحها غير السكون.. إنني أحذر الجميع من نزعات الشياطين والاسترسال وراء الأهواء التي ينتج عنها إفساد الأمن في هذه الديار المقدسة ولن أراعي في هذا الباب صغيراً ولا كبيرا “. كذلك توسعت تشكيلات “الشرطة” وأصبح لها فروع في جميع مدن المملكة. ومن أبرز القطاعات التي ألحقت بوزارة الداخلية “سلاح الحدود” حيث أنشأ الملك عبد العزيز المخافر على المنافذ وسير الدوريات على الحدود وكلف مراكز الأمارات والجمارك والشرطة والهجانة وبعض وحدات الجيش بأمن الحدود واهتم بحماية ساحلي المملكة الشرقي والغربي وأنشأ مصلحتين لخفر السواحل في فترة مبكرة من تاريخ المملكة في كل من الأحساء وجدة. وتخلص دراسة الدكتور العتيبي إلى أن إدارة الملك عبدالعزيز للبلاد تميزت بالتدرج والمرحلية في إدخال التنظيمات وتطويرها متأثرة بمراحل تطور الدولة السياسي والتي يمكن تقسيمه الى ثلاث مراحل متتابعة”مرحلة تكوين نواة الدولة في نجد” ثم ” مرحلة المجالس” وبدأت هذه المرحلة بصورة مبسطة في بعض الجوانب بعد ضم الأحساء إلا أنها أخذت مرحلة “التوحيد الإداري” وفيها خضعت كامل مناطق المملكة لتنظيم إداري موحد مصدره الجهاز المركزي للدولة ويأتي في خاتمتها قيام مجلس الوزراء.

مشاركة :