تعهدت بعض دول العالم، وبخاصة الدول الغربية بالتخلص من الطاقة النووية كمصدر غير آمن وخطر لتوليد الكهرباء، وبخاصة بعد أن نزلت على البشرية عدة كوارث عمَّت الكرة الأرضية جمعاء نتيجة للتسرب الإشعاعي من المفاعلات النووية، مثل كارثة احتراق المفاعل النووي في تشرنوبيل في أوكرانيا في 26 أبريل 1986، ثم الطامة الكبرى في فوكوشيما في اليابان 11 مارس 2011. ولكن هذه التعهدات في بعض الدول، مثل فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية لم تدم طويلاً، ولم تصمد أمام التغيرات التي طرأت على هذه الدول وعلى سياساتها المتأرجحة وغير المستقرة. فهناك عدة عوامل وظروف مستجدة انكشفت فجعلت هذه الدول لا تفي بالتزاماتها وتعهداتها في التخلي عن الطاقة النووية، منها التغير المستمر في حكومات هذه الدول، فلكل حكومة استراتيجياتها وسياساتها بالنسبة إلى أمن ومصادر الطاقة، ومنها عدم وجود مصدر بديل، آمن ومثالي للطاقة النظيفة المتجددة غير الملوث للبيئة، والذي يمكن الاعتماد عليه والوثوق به في جميع الظروف والأحول والتغيرات المناخية، فلا يوجد حتى الآن مصدر واحد متجدد يمكن أن يحل كلياً محل الوقود الأحفوري. كذلك ضغط المجتمع الدولي البيئي لمكافحة قضية التغير المناخي العصيبة من خلال تبني واستخدام مصادر للطاقة، مثل الطاقة النووية التي لا تنبعث عنها الملوثات المتهمة بظاهرة التغير المناخي وسخونة الأرض، وعلى رأسها غاز ثاني أكسيد الكربون. فكل هذه العوامل أحدثت ردة جديدة نحو استخدام الطاقة النووية وبناء مفاعلات جديدة حالياً وفي المستقبل. ولكن هذا التوجه نحو الطاقة النووية له عواقب وخيمة قديمة ومتجددة، ويحيي في ذاكرتنا أزمة عقيمة لم تحل بعد منذ أكثر من ثمانين عاماً، ومتعلقة باستخدام هذا النوع من التقنية النووية الانشطارية بشكلٍ عام، سواء لأغراض عسكرية، أو لأغراض سلمية مثل توليد الكهرباء، وهذه الأزمة الخانقة تتمثل في المخلفات المشعة بشكلٍ عام، ومخلفات وقود اليورانيوم المشع المستنفد (spent nuclear fuel rods) الذي ينجم سنوياً من مفاعلات الطاقة النووية بعد أن تنتهي فاعليته ويفقد جزءاً من نشاطه الإشعاعي. فهذه الأزمة الدولية التي تعاني منها الدول التي تستخدم المفاعلات النووية لإنتاج الطاقة الكهربائية منذ عقود طويلة من الزمن مازالت حاضرة ولا تغيب عن الذاكرة وعن الاهتمام، حتى إنها لم تعد قضية يتناولها العلماء ورجال السياسية والحكم والمعنيون مباشرة بهذه الأزمة، وإنما بسبب تداعياتها الأمنية على سلامة وصحة وبيئة الشعوب عامة، فقد تحولت إلى قضية رأي عام تتناولها وسائل الإعلام في هذه الدول النووية، فهذه المخلفات ما هي إلا قنابل دمار شامل مشعة وموقوتة قد تنفجر في أية لحظة، ولأي سبب كان إذا أُهملت، وتُركت من دون علاجٍ جذري ومستدام. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نُشر مقال في صحيفة «اليابان تايمز» (Japan Times) في 17 أبريل 2022 تحت عنوان «أطنان من المخلفات النووية اليابانية قد تُنقل إلى خارج البلاد»، حيث أفاد المقال بأن اليابان مازالت عاجزة وحائرة في كيفية الإدارة السليمة والمستدامة للمخلفات النووية التي بلغت أحجامها أكثر من 57 ألف طن من مختلف أنواع وأحجام المخلفات المشعة الناجمة من تشغيل المفاعلات النووية، ما اضطرها إلى التفكير في تصديرها إلى خارج اليابان. كذلك نشرت وسائل إعلام أمريكية عن معضلة تخزين المخلفات المشعة بالقرب من مناطق الزلازل والمناطق الساحلية، وبالتحديد من «محطة سان أونفري للتوليد النووي» (San Onofre Nuclear Generating Station) الواقعة بالقرب من مدينة (Laguna Beach) جنوب ولاية كاليفورنيا. ففي هذا الموقع هناك نحو 1600 طن من أعمدة الوقود المستنفد والمخلفات النووية المشعة الأخرى مكدسة منذ عام 1968 ومخزنة في براميل معدنية وبراميل من الخرسانة المسلحة، يبلغ مجموعها 123 برميلاً. وهذا الموقع يُعرف بأنه مُعرض لنزول الزلازل، إضافة إلى ارتفاع مستوى سطح البحر ووقوع السونامي، وهذه التهديدات تترتب عليها عواقب لا تحمد عقباها، ولا يستطيع أن يتكهن أحد بتداعياتها على البشر عامة. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، حسب تقرير «هيئة التنظيم النووي» (Nuclear Regulatory Commission) المنشور في أكتوبر 2021، هناك 80 موقعاً للقنابل الموقوتة التي قد تنفجر في أية لحظة في 35 ولاية، منها في ولاية كاليفورنيا 4 مواقع، وإلينوي 8، وبنسلفانيا 5، فلوريدا 3، وميشيجان 4، وتكساس 4، وولاية نيويورك 4 مواقع. أما على المستوى الدولي، فالتفاصيل موجودة في سلسلة تقارير فنية صادرة من «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» حول «الطاقة النووية»، وبالتحديد التقرير المنشور في يناير 2022 تحت عنوان: «مبادئ وحالة وأنماط إدارة مخلفات الوقود المشع المستنفد». فبناءً على تقديرات التقرير، ومنذ بدء استخدام الطاقة النووية في توليد الكهرباء عام 1954، هناك قرابة 390 ألف طن من مخلفات أعمدة وقود اليورانيوم المستنفد قد تولدت من المفاعلات النووية لتوليد الكهرباء في 14 دولة، ومعظم هذه المخلفات جاثمة في هذه الدول كالقنابل النووية التي تنتظر أن تنفجر في أي وقت، أو أن تتسرب منها الملوثات المشعة القاتلة، فمنها ما هي موجودة في أحواض مائية لتبريدها ومنع تسرب الإشعاع، ومنها ما هي مخزنة في براميل فوق الأرض، أو تحتها في أعماق مختلفة، وهذه أيضاً قد تتآكل وتصدأ وتنطلق منها الإشعاعات إلى الهواء الجوي. كما أن خطورة هذا الوضع الدولي قد يكون في قيام بعض الجماعات بعمليات إرهابية باستخدام هذه المخلفات المشعة، كذلك هناك كلفة عالية لا تقدر بثمن لصيانة هذه المخلفات ومتابعة سلامتها وأمنها، ومنع وصول أيدي المجرمين إليها. وهناك مدرستان، أو سياستان مختلفتان في التعامل الاستراتيجي مع هذه المخلفات المشعة الناجمة عن الأنشطة النووية. أما المدرسة الأولى فهي تُفضل معالجة وتدوير مخلفات الوقود النووي من خلال استخلاص اليورانيوم والبلوتونيوم، واستخدامهما كوقود مرة ثانية في بعض المفاعلات، وبالرغم من عملية المعالجة والتدوير هذه إلا أن هناك كمية أخرى أقل تنجم كمخلفات عن هذه العملية، والدول التي تتبني هذه السياسية هي فرنسا واليابان وألمانيا وروسيا وبلجيكا وكوريا الجنوبية، ومؤخراً بدأت الولايات المتحدة الدخول في هذه المدرسة. وأما المدرسة الثانية فهي تعتمد سياسة التخلص المباشر من أعمدة الوقود عن طريق تخزينها في مواقع تحت الأرض، مثل فنلندا وكندا والولايات المتحدة والسويد وسويسرا، ولكن الموقع المعتمد الوحيد حتى الآن سيكون في فنلندا. وإنني أتساءل اليوم هل أخذ زعماء هذا التوجه القديم الجديد لتوليد الكهرباء بطاقة الانشطار النووي في الاعتبار مخلفات الدمار الشامل التي تنجم عن توليد الكهرباء؟ وهل وضعوا سياسة طويلة الأمد ومستدامة لإدارة هذه المخلفات؟ أم أنهم سيكدسون المخلفات النووية المشعة الجديدة فوق المخلفات المتراكمة منذ عقود، ما سيؤدي إلى تعاظم وتفاقم الأزمة الحالية؟ bncftpw@batelco.com.bh
مشاركة :