في بلد دمر الفساد السياسي الكثير من ملامحه وفنونه، بات رحيل المبدعين هو الأمر الأكثر وجعا، حيث تنتهي آمالهم في عراق أفضل يفسح المجال أمام أبنائه ليعبروا عنه ويكونوا صوته وصورته وكلمته التي تنير مكامن الجمال والحياة فيه وتخلد أساميهم بين أكثر المبدعين التزاما بالهوية والانتماء. تتواصل الخسارات العراقية في وقت يتجهم فيه وجه العراق بأفعال شراذم الفاسدين والمفسدين الذين يتسيّدون المشهد دون أن يرف لهم جفن أمام كم هذه الخسارات، التي مازالت تخطف مبدعا إثر آخر ممن قدم ويقدم المنجز تلو المنجز المضمن بعبير الانتماء للوطن وناسه الموجوعين. لقد كان الفنان والكاتب العراقي سعد هدابي، الذي رحل عنا سريعا دون تلويحة وداع عن عمر ناهز الستين عاما فجر الثامن عشر من أبريل الحالي، واحدا من هؤلاء المبدعين الأصلاء الذين رسموا فضاءات الإبداع محليا وعربيا ودوليا بروائع إبداعاتهم المتنوعة المسكونة بالجمال والمحبة والأمل وقضى حياته باحثا في رحاب الفكر والفن، وكان من أشد المتابعين لحركة المسرح العراقي والعربي والعالمي، لهذا وغيره فالراحل هدابي لا يمكن أن تحيط به الحروف والكلمات لغزارة نتاجاته وإبداعاته وتنوعها وتميزها مقارنة بمن شاركوه الحضور ضمن الساحة الفنية والثقافية. إبداعات هدابي امتدت إلى كتابة المسلسلات والأفلام والبرامج التلفزيونية فضلا عن العديد من الأفلام السينمائية التي حققت نجاحا باهرا عشق هدابي المسرح منذ نعومة أظافره وبدأت أولى خطوات هذا العشق من أول ممارسة مسرحية كان يجريها طلبة السادس ابتدائي كوسيلة تعليمية من يوم كل خميس في العام 1969 لتشكل عنده هاجسا عجيبا لازمه كظله، فانضم إلى فرقة الفن الثوري في الإعلام الداخلي في مدينة الديوانية ليمثل في مسرحيتي “مساء التأمل” للمخرج يحيى داوود و”فرح شرقي” للمخرج صباح عطية، وفي العام 1979 قرر الدخول إلى معهد الفنون الجميلة ليفك طلاسم هذا الفن النبيل ويصقل موهبته على أيدي نخبة فذة من أساتذة وفناني المسرح ورفقة زملاء مهووسين حتى النخاع بأبي الفنون. تخرج من قسم الإخراج المسرحي وحصل على شهادة الدبلوم عام 1985، وكان مشروع تخرجه مسرحية “كيف يتم تخليص السيد موكينبوت من آلامه” للكاتب بيتر فايس، وتحصل، في ما بعد، على شهادة البكالوريوس في التربية الفنية من الكلية التربوية المفتوحة عام 2017، ومارس التدريس في معهد الفنون الجميلة في محافظة الديوانية. المتتبع للسفر الإبداعي لهذه القامة المسرحية العراقية الكبيرة يجد أن هدابي واصل مشواره المسرحي بتنوع وتعدد في تجاربه من حيث الكم والنوع، تجاربه التي تكاملت فيها مكانته وعطاءاته الإبداعية والتي أهلته لمعرفة واعية وعميقة بأسرار اللعبة المسرحية، وبدأها ممثلا في أكثر من أربعين مسرحية من أهمها “رسالة الطير” للكبير قاسم محمد ومسرحية “بستان الكرز” لمهند طابور، ومن ثم خاض تجارب إخراجية لعدد من المسرحيات المميزة. بعد ذلك خاض هدابي غمار تجربة تأليف النصوص المسرحية، مكرسا جل وقته وعطاءاته لتأليف نصوص مميزة شكلا ومضمونا كان فيها امتدادا حيويا لعمالقة كتاب المسرح في العراق، فكان تلميذا نجيبا حافظ على الأسس والمشروعية في حمل راية التأليف المسرحي هو وأبناء جيله من كتاب المسرح العراقي الراهن وفي مقدمتهم الكاتب المبدع المثير للجدل علي عبدالنبي الزيدي. خسارات يوثقها المسرح العراقي خسارات يوثقها المسرح العراقي ولم تتوقف معظم نصوص هدابي عند حدود العراق بل امتدت إلى الكثير من البلدان العربية، فاستقطبت العديد من المخرجين العرب من الخليج إلى المحيط الذين قدموها برؤية ومعالجة درامية متباينة، لأنها كانت تعبر عن رؤى وتطلعات وهموم الإنسان العربي بل الإنسان في كل مكان، وحازت هذه الأعمال على جوائز ومراكز متقدمة في أكثر من مهرجان، فكما كان نص هدابي تنويعا على هذه الهموم والتطلعات فإن النص المنتج بصريا من هؤلاء المخرجين عراقيين كانوا أم عربا اشتغل على التنويعات التي احتملها النص الأصلي والذي كان على درجة عالية من الإجادة والحرفية المسرحية الأصيلة شكلا ومضمونا. وتنطلق نصوص هدابي من فكرة أن “المسرح ليس صورة عن المجتمع إنما هو رؤية توجه المجتمع وتواجهه”، حيث اعتاد هذا الكاتب المعطاء أن يقدم سردا مسرحيا شفيفا يغوص في موضوعات إنسانية تصلح للمحلي والعربي في آن واحد، لما انطوت عليه من صراع درامي جوهره الإنسان أينما يكون حيث الهموم والآلام والآمال المشتركة. وفي الوقت الذي أخذت نصوصه طريقها إلى أبرز الفرق المسرحية في العراق وفي مقدمتها الفرقة القومية للتمثيل وكبار مخرجيها ومخرجي العراق والتي لا يتسع المجال لحصرها، فإنها أخذت طريقها إلى الطبع أيضا حيث كانت المجموعة الأولى تحت عنوان “أبصم بسم الله” وصدرت عام 2018 عن دار الشؤون الثقافية العامة في وزارة الثقافة والسياحة والآثار في 120 صفحة، وضمت نصوص “أبصم بسم الله”، “بنيران صديقة”، “ذات دمار”، “كوليرا”، “العباءة”، “حدث غدا”، “رماد”، وقد أشار الراحل في مقدمتها مفخرا “أعز أولادي… كتاب يفخر به أحفادي”. الفنان واحد من الذين رسموا فضاءات الإبداع محليا وعربيا ودوليا بإبداعاتهم المسكونة بالجمال والمحبة والأمل أما المجموعة الثانية “قصة حب وثنية” فقد صدرت عن دار نيبور للطباعة والنشر في العراق وضمت سبعة نصوص مسرحية “الوقاد”، “شرفات”، “أرواح جائحة”، “النباشة”، “نساء في عاصفة”، “صهيل”، “قصة حب وثنية”، ودارت في فلك التطلعات والهموم والغربة الكبيرة بقواسم مشتركة تميزت بها عادة نصوص هذا الكاتب الذي بات أحد أيقونات التأليف المسرحي عراقيا وعربيا، ولهذا ليس غريبا أن تحصد مسرحيته “نزيف المومياء” جائزة الإبداع الكبرى في مسابقة الإبداع العربي في الشارقة عام 2000. وامتدت إبداعات هدابي إلى كتابة العديد من المسلسلات والأفلام والبرامج التلفزيونية فضلا عن العديد من الأفلام السينمائية الوثائقية والروائية القصيرة، التي حققت حضورا متقدما ونجاحا باهرا عبر الشاشات الفضية لاسيما قناة العراقية الفضائية، وعبر المهرجانات السينمائية المحلية والعربية والدولية الرصينة التي حصد فيها أكثر من جائزة متميزة، وهي أفلام عالج فيها الكثير من المشكلات والمعضلات مستلهما الواقع العراقي والعربي والإنساني بتمظهراته المختلفة، ومسلطا الضوء الكاشف على ملحمة الوجع العراقي الطويل، وقام على إخراجها نخبة من أبرز المخرجين العراقيين والعرب. فوق هذا وذاك فإن كل هذا السفر الذهبي الذي تتوج بهذا الكم الكبير من الإبداعات كان مفعما بخلق عال ورفيع وتواضع جم عرف به الراحل هدابي في كل المحافل والأوساط الثقافية والفنية التي تناغم معها وعايشها دون منة أو ادعاء أو جعجعة فارغة، اعتاد عليها “الأدعياء” الذين ابتلينا بهم ليس في السياسة حسب، بل وفي الثقافة والفن. عزاؤنا وعزاء كل سفراء ومريدي الإبداع، أن رحيل المبدع الكبير هدابي كان وسيظل رحيلا معجونا بطعم الإبداع والأصالة النادرة.
مشاركة :