لا يمكن للحديث عن القيم التربوية وبنائها أن يتوقف، لأننا نعيش واقعا متغيرا يفرض علينا استباق التغيرات والاستعداد لها، لتكون المنظومة التربوية قاطرة تغيير المجتمع في اتجاه الأفضل والأفضل، هذه هي قناعتي التي حاولت في مقالي السابقين إيضاحها، وها أنذا أتابع الخوض في الموضوع نفسه إيمانا مني بأن للصحافة عامة وصحافة الرأي خاصة دور السلطة الرابعة التي تعضد جهود الدولة والأسرة والمجتمع المدني في سبيل تحقيق تطلعات المجتمع البحريني من خلال مخرجات منظومتنا التربوية. التنوع والاختلاف نعمة حبا الله بها بعض المجتمعات البشرية، إذ شكل ذلك بالنسبة إلى بعض هذا البعض عامل قوة استثمرته في إنشاء هوية مواطنية متميزة كانت فعالة بل حاسمة في عمليات التنمية والبناء التي شهدتها هذه المجتمعات. لقد عرفت هذه المجتمعات كيف تحول التنوع والاختلاف إلى عامل ثراء ثقافي أنتج تعددية متسامحة وظفتها في النهوض بالمجتمع في كافة المجالات، فلذلك تراها قد قطعت أشواطا وأشواطا في تحقيق رفاهها ورخائها. حصل ذلك عندما تسامت المجموعات البشرية على انتماءاتها العرقية والإثنية والعقائدية والمذهبية، وقررت أن تبني لها شخصيتها الوطنية الجامعة. فكيف بدا الحال بالنسبة إلى البعض الآخر من المجتمعات، وخاصة منها العربية؟ واقع الحال بالنسبة إلى بعض المجتمعات العربية يقول إنها وبدلاً من أن يتلاقى فيها التنوع والاختلاف ومن ثم تنصهر لبناء تعددية وطنية جامعة وتشرع في عملية البناء والتنمية، فإنها اختارت أن تبحث عما يفرق، وتعمق فيما بينها العناصر التي تشتت، ولهذا مثّل لها هذا التنوع وهذا الاختلاف عامل إعاقة وعنصر ضعف باعد بينها وبين التنمية، وأخذت تتقوقع على ذاتها لتقيم بينها وبين الآخر المختلف معها جدرانا عزلتها في أوطانها وعن أوطانها، حتى قبعت هذه المجتمعات في قاع التخلف الاقتصادي والاجتماعي. وقد كانت الطائفية أهم إفرازات الفشل في بناء الوطنية الجامعة وأكثرها خطورة أنا أتفق مع القائلين إن الطائفية ليست بالضرورة نتاجا للتنوع والاختلاف، هي نتاج لخطأ في فهم الانتماء والولاء. وهي تطفو إلى السطح وتنتعش المذهبية السياسية فيها عندما تتعدد الانتماءات والولاءات فتضيع بوصلة الوطن ويصبح موقعه في آخر قائمة الولاءات والانتماءات. المجتمع البحريني من المجتمعات التي ظلت ردحاً من الزمن تفخر بتنوع أعراقها وتعدد مذاهبها مما زادها ثراء ثقافيا، وقد استثمر آباؤنا وأجدادنا هذه الميزة فشيدوا مجتمعا متحاباً ينعم بالسلام ووضعوا اللبنات الأولى للنهضة التي نشهدها اليوم، لكن أين نحن اليوم من مجتمع الآباء والأجداد؟ فهل نجح تسونامي الطائفية الذي حملته عواصف ما يسمى بـ الربيع العربي في عام 2011 واستثمرت أجواءه الدولية جمعية الوفاق وشقيقاتها المنتميات للمذهب على حساب الانتماء للوطن بكلية معطياته في تحقيق ما خططوا له من تشتيت ممنهج للمجتمع عبر ضرب وحدته الوطنية، وفي تغيير قناعات هذا الشعب في بناء شخصيته الوطنية غير التابعة؟ ثم هل الطائفية قدر محتوم للمجتمع البحريني؟ هذان السؤالان الأخيران في اعتقادي مهمان. وإجابتي الشخصية عن السؤال الأول قائمة على النفي حتماً، لأن ما شهدته البحرين قد زاد الشعب البحريني يقيناً بوحدته وبضرورة وقوفه خلف قيادته السياسية بقيادة الملك المفدى، أما الإجابة عن السؤال الثاني فأترك لك عزيزي القارئ أمر تعرفها فيما يتلو من السطور. لقد سبق وأن بينا، في مقالات سابقة، بالنسبة إلى المجتمع البحريني وجود رأي يشير إلى أن الديمقراطية سبب رئيسي في بروز الطائفية، وأنها، أي الطائفية، هي من أتاحت للمذهبيين الذين تسلقوا الديمقراطية، لحاجة في اشباع إيمانهم، أن يظهروا ما يبطنون تجاه المغاير المذهبي، وأعتقد أن هذا الرأي لا يتمتع بالوجاهة المطلوبة ليصمد أمام النتائج الباهرة التي حققتها المجتمعات المتقدمة، وعليه فإننا نستبعد هذا الرأي، لأنه، ببساطة، مخالف للوقائع الحية التي نشهد نجاحاتها على مستوى الفعل الإنساني في أكثر من مكان. ثمة رأي آخر، عزيزي القارئ، مفاده أن الطائفية ما كانت لتظهر لو أن وزارة التربية والتعليم في البحرين قد اعتمدت مناهج متطورة حية واهتمت بشؤون المواطنة والوطنية وحقوق الإنسان وعززت هذه المناهج ببرامج وأنشطة تربوية صفية ولا صفية تعنى بالمفاهيم والقيم الكبرى مثل: الانتماء والولاء التسامح، والحوار، الاعتدال والوسطية، ونبذ الكراهية والعنف و.. و..، وهذا قول صحيح إلى حد، إذا ما كانت وزارة التربية والتعليم وحدها المسؤولة عن هذا الفعل، فالمناهج بمفردها لا تكفي لإحداث التغيير المرغوب في المجتمع إذا ما ظلت وحيدة ولم تحصل على دعم ومؤازرة من مؤسسات المجتمع المدني. ولعلي هنا أنتهزها سانحة لإبداء رأي شخصي فيما يتعلق بالانتماء والولاء، لأقول إن للمفهومين خصوصية وأهمية تتعدى قيم التسامح والوسطية والاعتدال، لأنهما يقعان تحت سقف النسبية إذا ما تم تناولهما في كل مجتمع على حدة. فالانتماء والولاء في البحرين ودول مجلس التعاون يجب التشديد عليهما ليبدوَا بهذا الشكل الانتماء والولاء إلى الوطن والقيادة السياسية، إذ ينبغي تحديد وجهة الانتماء والولاء في مجتمعاتنا البحريني والخليجي، فالطائفيون المذهبيون بالمرصاد لتوجيه الانتماء والولاء من خلال منهجهم الخفي الوجهة التي يريدون بعيدا عما يؤسس لهذه المجتمعات خصوصيتها وهويتها. ما فتئت وزارة التربية والتعليم في مملكة البحرين تعمل جاهدة على إعداد أفضل المناهج في ضوء أحدث المعايير الدولية وأكثرها نجاعة في تخريج ناشئة تجسد تطلعات المجتمع البحريني، ولكن كيف ننتظر من وزارة التربية أن تحدث التغيير الحاسم في ظل هذه التجاذبات السياسية التي يستثمرها رجال الدين الطائفيون في كل مذهب من خلال توظيف رخيص للمنابر الدينية ليبيحوا لأنفسهم نحت ملامح شخصية نفضوا عنها الغبار واستحضروها من مقابر التاريخ في محاولة منهم لإعادة رسم الخريطة الاجتماعية مقاومين بذلك عملية البناء الحداثية التي جعلتها الدولة المدنية البحرينية أولوية من أولوياتها؟!! إن كل الجهود التي تبذلها وزارة التربية في تحسين مناهجها التربوية لتواكب المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لتستجيب لشروط المواطنة وحقوق الإنسان ستذهب سدى، في ظل مناهج موازية لا تغذي الناشئة إلا الحقد المذهبي الأعمى ولا تلهمها إلا أساطير الصفاء العرقي أو المذهبي، ولا تحفزها إلا إلى ما ينفي شركاء الوطن ويلغيهم. أنا في ضوء هذا الواقع أميل إلى وجهة النظر القائلة بأن التربية هي المسؤولة عن تفشي الطائفية، وأعني في هذا المقام التربية بمطلق معناها، أي التربية التي يضطلع بها المجتمع ككل. إن أي متتبع لما تنفذه وزارة التربية والتعليم من برامج لدعم المواطنة وحقوق الإنسان لا بد أن يكون منصفاً، ولن يوفر ذريعة ليلقي باللائمة على كل الجمعيات السياسية التي تنحدر من خلفيات مذهبية أيا كان هذا المذهب، سنيا أو شيعيا، ويحملها مسؤولية تفشي سوءة الطائفية في المجتمع. وأحسب أن أولى التحديات، ونحن نأمل في اجتياز النفق المظلم الذي أدخلتنا في متاهته الجمعيات المذهبية على اختلاف انتساباتها، أن نعيد ترتيب أولوياتنا الوطنية لنتباحث حلها على أسس ديمقراطية معضودة بتطبيق المواطنة واحترام حقوق الإنسان التي تجهد وزارة التربية على غرسها لدى ناشئتها لتبقى سلوكاً إيجابياً ينفي ما قبله من سلوكات سلبية. كما ينبغي علينا الحرص على جودة مادتنا الإعلامية وصدقها والتدقيق في طرائق إرسالها وعرضها على المواطن، لأن في ثلاثي وزارة التربية والتعليم والإعلام والأسرة يكمن نجاح المجتمع في تجاوز تشتته ليبني شخصيته الوطنية الجامعة.
مشاركة :