أصبحت قضايا «الأمن المائي»، و«تغير المناخ»، محفزات رئيسية لعدم الاستقرار الإقليمي والصراعات بين الدول في جميع أنحاء العالم. ونظرًا لأن الوصول إلى المياه النظيفة، يعتبر محفزا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والتقدم، فقد اشتدت المنافسة على التحكم في هذا المورد والوصول إليه بشكل متزايد، خاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ومع تغير المناخ العالمي، والزيادة في أنماط الطقس غير المنتظمة أصبحت موارد المياه -التي كان يمكن الاعتماد عليها سابقًا- أقل موثوقية بالنسبة للملايين. ورغم تغطية مياه البحار والمحيطات لمعظم الكرة الأرضية، إلا أن أكثر من 99% منها غير صالح للشرب. وبالتالي، فإن التحكم في المياه العذبة في الأنهار والبحيرات ومستودعات المياه الجوفية؛ يمثل منفعة حيوية للبلدان التي تسعى إلى التنمية الاقتصادية، حيث يجنبها الصراعات، التي يتوقع انتشارها في المناطق التي تعاني من ندرة المياه. ووفقا لـ«جامعة الأمم المتحدة»، فإن حوالي 500 مليون شخص، في 19 دولة بإفريقيا، يواجهون «انعدام الأمن المائي». وكتب «ساندي ميلن»، في شبكة «بي بي سي»، أن «ما يصل إلى ربع سكان العالم، يواجهون ندرة حادة في المياه» خلال شهر واحد في السنة على الأقل. وأوضح «ستيوارت باتريك»، من «مجلس العلاقات الخارجية»، في ندوة عقدتها «مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي»، «بعنوان حرب المياه.. كيف أصبح المورد اللازم للحياة تحديًا جيوسياسيًا»، أن المياه مورد «محدود»، وأن توازنها مع النظام البيئي العالمي، قد اصطدم بالتوسع في عدد السكان على مدى القرون الماضية. ويتبدى النمو السكاني في زيادة الطلب على المياه. وفي هذا الصدد، أشار «ميلن»، إلى زيادة معدل استهلاك المياه العالمي خلال القرن الماضي بأكثر من ضعف معدل الزيادة السكانية. وأضاف «تشارلز أيسلندا»، من «معهد الموارد العالمية»، أن «النمو السكاني والتنمية الاقتصادية يحفزان الطلب المتزايد على المياه في جميع أنحاء العالم»، وفي ذات الوقت، يؤدي تغير المناخ إلى «تقليل إمدادات المياه»، وجعل هطول الأمطار «غير منتظم في العديد من الأماكن». علاوة على ذلك، سجلت تقارير المخاطر العالمية، الصادرة عن «المنتدى الاقتصادي العالمي»، «أزمات المياه»، باعتبارها من بين المخاطر العالمية الخمس الأكبر، وذلك لكل عام تقريبا منذ عام 2012. وحدد برنامج رقمي يُعرف باسم «أداة الإنذار المبكر العالمية»، ما يصل إلى 2000 «بؤرة صراع محتملة» في العالم، بسبب مشاكل الأمن المائي. وتعمل الجهود التي تبذلها الدول للوصول إلى المياه العذبة، واستخدام مصادرها للمنفعة الاقتصادية الخاصة على مفاقمة التوترات العابرة للحدود. ومن الناحية الجيوسياسية، رأى «ميلن»، أن «التوسع في بناء السدود من قبل دول المنابع»، من المرجح أن «يزيد من الخلافات مع الدول الواقعة في نهاية مجاري الأنهار». ومن بين هذه التوترات العالمية، تلك التي بين كازاخستان وأوزبكستان، وتركمانستان، وطاجيكستان، وقيرغيزستان حول «بحر آرال». وبين الصين وفيتنام وكمبوديا حول «نهر ميكونغ»، وغيرها حول «نهر الأردن». وشرح «باتريك»، كيف تستخدم بعض البلدان سيطرتها على مصادر المياه من أجل «النفوذ» الجيوسياسي، مشيرا إلى أن بكين، قد سيطرت على الأنهار النابعة من هضبة التبت، والتي تعتبر مركزية للزراعة في الهند، لمنفعتها الخاصة من خلال تحويل مجاري المياه في وقت تسوده التوترات السياسية بين نيودلهي وبكين. وفي ضوء هذه الديناميكيات، يجب تقدير المخاطر المرتبطة بالتعديل المتعمد في مصادر المياه، وكذلك الانحرافات الناجمة عن تغير المناخ. ووفقًا لـ«لأمم المتحدة»، و«البنك الدولي»، يمكن أن تؤدي موجات الجفاف العالمية إلى نزوح ما يصل إلى 700 مليون شخص بحلول عام 2030. وأوضحت «كيتي هايدن»، من «الخارجية الهولندية»، أنه «إذا لم يعد هناك ماء، سيبدأ الناس في التنقل»، و«إذا نقص بشدة، فسيحاول السياسيون وضع أيديهم عليه، وقد يبدأون في القتال من أجله». وفي الوقت الحاضر، تعد أبرز حالات الصراع على المياه، التي يمكن أن تؤدي إلى أزمة أو صراع دولي، هو سد «النهضة الإثيوبي»، الذي تم بناؤه على النيل بتكلفة 5 مليارات دولار. وفي المقابل، قامت السودان، ومصر -اللتان يعانيان من انخفاض تدفق المياه في نهر النيل؛ بسبب السد- بتدريبات عسكرية مشتركة استجابة للتوسعات الإثيوبية في السد. واعتبر «ميلن»، أن ذلك هو «أعلى الخلافات خطورة على مستوى المشهد السياسي الحالي». وعلقت «جيسيكا هارتوغ»، من «منظمة إنترناشونال ألرت»، أنه «من غير المرجح أن تجد الدول الثلاث اتفاقًا بنفسها»، وأنه «يجب تكثيف الجهود الدبلوماسية الدولية لتجنب أي تصعيد». وعلى نطاق واسع، هناك اتفاق على أن تغير المناخ، يؤدي إلى تفاقم المنافسة الجيوسياسية على المياه. وحذرت «سوميني سينغوبتا»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، من أن تغير المناخ يمكن أن يزيد من مخاطر تحكم المياه في ظهور تحديات جيوسياسية، من خلال «المنافسة على مورد نادر بالفعل». وبالمثل علق «بيتر جليك»، من «معهد المحيط الهادئ»، بأن تغير المناخ، «يؤدي إلى تفاقم الظروف ذاتها التي تسهم في نزاعات المياه»، أي «الجفاف والندرة وعدم المساواة». ومع ذلك، أوضح «ميلن»، أنه «حتى في حالة وجود الجفاف، فإن مزيجًا معقدًا من العوامل سيحدد ما إذا كان سيحدث صراع بالفعل»، معتبرا أن «التماسك الاجتماعي»، هو العامل الأهم في هذا الصدد. وفيما يتعلق بالشرق الأوسط، فإن قضية ندرة المياه والمنافسة عليها، يمكن أن تصبح محركًا رئيسيًا للمنافسات الجيوسياسية. ووفقًا لـ«جليك»، فمنذ عام2000، حدثت ربع الصراعات المتعلقة بالوصول إلى المياه في «ثلاث مناطق شحيحة المياه ضربها الاحتباس الحراري: »الشرق الأوسط، وجنوب آسيا، وإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى«. وفي منطقة الشرق الأوسط -التي تضم وفقا لـ«معهد الموارد العالمية»، 12 من أصل 17 دولة تعاني من الإجهاد المائي في العالم- قدر «البنك الدولي»، أن الناتج المحلي الإجمالي الوطني سينخفض ما بين 6-14% بحلول عام 2050، جراء تأثير ندرة المياه على الزراعة والصناعة. ووفقا لـ«ميلن»، «لا يبدو التأثير المزدوج للإجهاد المائي وتغير المناخ في أي مكان، أكثر وضوحًا من حوض نهري دجلة والفرات»، حيث «تفقد المنطقة المياه الجوفية بشكل أسرع من أي مكان في العالم». ومن بين الجهود التي تبذلها البلدان لتأمين مواردها المائية على حساب الآخرين؛ أشار إلى قيام تركيا، بسن «مشروع طويل الأمد»، لبناء 22 سدا، ومحطة طاقة على طول نهري دجلة والفرات». وأوضح «المكتب الدولي للمياه» بفرنسا، أن هذا الإجراء قلل من تدفق المياه العذبة إلى العراق، بنسبة 20%»، كما يُمكن أن يقلل التدفق الإجمالي لنهر الفرات بنسبة تصل إلى 50%. ويعد تلوث المياه أيضًا مشكلة رئيسية في المنطقة. وأشار «ميلن»، إلى كيف أدت «المياه الملوثة» في عام 2018 إلى استقبال مستشفى البصرة العراقية 120 ألف شخص. وأشار «أيسلندا»، إلى «تصريف مياه الصرف الصحي في القنوات المائية دون أي معالجة»، وكيف أن هذه العوامل -جنبًا إلى جنب مع مياه الخليج العربي المالحة- «تتسلل إلى أعلى النهر»، وبمرور الوقت، «تدمر المحاصيل، وتتسبب في الإصابة بالأمراض»، بالإضافة إلى ذلك، فإن تداعي البنية التحتية يعد عنصرًا رئيسيًا آخر. وذكر «ميلن»، أن العراق «يفقد ما يصل إلى ثلثي المياه المعالجة؛ بفعل البنية التحتية المتضررة». وبناءً على ذلك، توضح «هارتوغ»، كيف أن هذه القضايا تؤدي إلى حدوث الصراع، مشيرة إلى اندلاع الحرب الأهلية السورية، وكيف ألغت الحكومة مخططاتها لدعم الزراعة في البلاد خلال خمس سنوات من الجفاف قبل الحرب الأهلية، مما أجبر سكان الريف على الهجرة إلى البلدات والمدن، وبالتالي «تأجيج» الصراع لاحقًا. ومن خلال شرح كيفية تكرار هذه الحالة، أكد «رانج علاء الدين»، من «معهد بروكينجز»، أن «فشل الدولة»، و«الهجرة غير المنضبطة»، و«الأماكن غير الخاضعة للسيطرة»؛ تسمح للمتمردين المسلحين والإرهابيين «بزيادة صفوفهم من خلال الأفراد الضعفاء. وإلى جانب فشل «البنية التحتية»، و«الخدمات الاجتماعية الضعيفة»؛ يمكن ظهور هذه العوامل في احتجاجات واضطرابات على مستوى المنطقة»، كما حدث في إيران، ولبنان، خلال السنوات الأخيرة. وفي إدراك لذلك، لوحظت الجهود المبذولة لإنشاء موارد المياه العذبة في الخليج العربي. وأوضح «ميلن»، كيف وفرت «السعودية»، 50% من احتياجاتها المائية من خلال تحلية مياه البحر، وبالتالي تخفيف وقع المشاكل المتوقعة. وانعكاسًا لهذا النهج، سعت «مصر»، لبناء وتشغيل ما يصل إلى 47 محطة لتحلية المياه، جنبًا إلى جنب، مع بناء أكبر محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي في العالم. ومع ذلك، أوضح أن غالبية هذه المشاريع من غير المرجح أن تكتمل قبل عام 2030. وفي غضون ذلك، «يستمر وضع المياه في التدهور». وبالمثل، حذر «علاء الدين»، من أن تقليص إمدادات المياه في الشرق الأوسط، بسبب تغير المناخ «لن ينجو منه أي بلد»، وأن دول الخليج «ستواجه استنفادا في موارد المياه العذبة، في غضون الخمسين عامًا القادمة». من ناحية أخرى، أشارت «زينب عثمان»، من «مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي»، إلى أن القضايا المتعلقة بالمياه «لم تحصل على نفس القدر من التغطية»، مثل تلك المتعلقة بالموارد المحدودة الأخرى، كالنفط، والغاز الطبيعي؛ مما يفسر، سبب محدودية الجهود الدولية لمعالجة ندرة والمنافسة على المياه. ونظرًا لاتساع نطاق المشكلة، وكيفية تأثيرها على مناطق عدة في العالم؛ علق «ميلن»، أنه «لا يوجد حل واحد، ولا اتفاق عالمي يناسب الجميع لندرة المياه. وحتى الآن، وقعت 43 دولة فقط دبلوماسيا على «اتفاقية الأمم المتحدة للمياه»، بشأن الأنهار والبحيرات العابرة للحدود الدولية، كما أن الاتفاقيات الثنائية، أو متعددة الأطراف، بشأن إدارة المياه وتقاسم الموارد، تُعد «نادرة». وأكد «باتريك»، أن هناك اتفاقا بين المحللين، على أن تغير المناخ يسهل الاتجاه المتزايد للصراعات المرتبطة بالسيطرة على مصادر المياه. وحول ما يمكن فعله لحل هذه المشكلات؛ أوضحت «أوليفيا لازارد»، من «مركز كارنيجي أوروبا»، أن الحكومات بحاجة إلى «تغيير في التوجهات»، حيال مواقفها تجاه التعاون والتخطيط طويل المدى بشأن الأمن المائي. واقترح «أيسلندا»، أن «زيادة الأسعار لتعكس التكلفة الكاملة للخدمة، يمكن أن تساعد في دفع تكاليف التشغيل والصيانة الحالية»، مع توفير «تمويل موثوق به لتحسين وتوسيع البنية التحتية للمياه». على العموم، فإنه مع عدم وجود «اتفاقيات ثنائية»، أو «اتفاقيات دولية شاملة»، لتخفيف النزاعات على الموارد المائية، وإلزام الدول بتقاسم الموارد المحدودة؛ فإن التوترات والصراعات الناتجة عن ذلك، ستزداد تصعيدًا في السنوات المقبلة. وفي حين أثبتت دول الخليج أنها قادرة على إدارة المخاوف بشأن إمدادات المياه العذبة من خلال استخدام التكنولوجيا والتقنيات المتقدمة؛ فإن العديد من الدول الأخرى، بما في ذلك بالشرق الأوسط، لا تستطيع الوصول إليها بسبب نقص التمويل المناسب، أو البنية التحتية القائمة. ومن الناحية الجيوسياسية لا يزال تقييد الموارد المائية مصدرًا رئيسيًا للتوترات بين الدول، كما يتضح من «سد النهضة»، و«سدود تركيا» على نهر الفرات. ومع ذلك، فإن هذه العوامل من غير المرجح أن تؤدي وحدها إلى صراع مباشر، إلا عندما تقترن بمصادر أخرى للخلاف، مثل الحكومات غير الفعالة، والبطالة المرتفعة، وتفكك التماسك الاجتماعي، والميل إلى الصراع داخل الدولة، أو داخل الدول في المناطق التي تفتقر إلى موارد مائية قوية.
مشاركة :