في غمرة الأحداث الأوكرانية التي تشغل العالم منذ شهرين، احتل خبر استحواذ رجل الأعمال الشاب ايلون ماسك على منصة تويتر واجهةَ الأنباء العالمية. الصفقة المرتقبة تصل نحو 44 مليار دولار، وستمكن أغنى رجل في العالم من التحكم في أحد أكثر الوسائط الاجتماعية انتشاراً (قرابة 400 مليون مستخدم)، بما سيكون له دون شك أثر حاسم على سياسات الاتصال والتواصل الرقمية التي غدت في السنوات الأخيرة مؤثرةً وفاعلةً في بناء وتوجيه الرأي العام العالمي. وتفيد المعطيات المتاحة أن منصات تويتر وفيسبوك ويوتيوب وسنابشات واينستغرام يستخدمها ثلاثة مليارات شخص، أي 40 بالمائة من سكان المعمورة. ولا شك في أن موقع التغريد الأزرق هو أكثر هذه الوسائط تأثيراً، باعتبار كونه الشبكةَ المفضلةَ لدى النخبة السياسية والثقافية والاقتصادية في العالَم أجمع. ويعود اهتمام ماسك بتويتر إلى زمن سابق، فالرجلُ لا يخفي امتعاضَه من سياسة الرقابة التي تمارسها هيئة الإشراف على الشبكة، وقد وجَّه لها في السابق تهمةَ التضييق على حرية التعبير وتشجيع لون فكري أيديولوجي واحد هو التوجه الليبرالي. وبعد تعليق شبكة تويتر حساب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب (قبل إلغائه كلياً) تعاطف ماسك مع ترامب، معتبراً أن موقعَ التواصل الاجتماعي المفضَّل لدى الساسة وصنَّاع القرار تحوَّل إلى أداة للقمع والتمييز. ويبدو من البديهي أن اهتمام ماسك بشراء تطبيق تويتر يرجع أساساً إلى الحرص على مراجعة سياسة نشر وضبط مضامين التغريد في الشبكة الزرقاء. ومن هنا ندرك دلالةَ تصريحاته الأولى بعد إعلان صفقة الشراء، حيث أكد أنه سيُلغي كل حواجز وقيود التعبير في الشبكة، سامحاً لألد خصومه بالإبانة عن مواقفهم وآرائهم. والمثير في هذه التصريحات هو أنها تزامنت مع اتجاه عالمي واسع لضبط وتقنين شبكات التواصل الاجتماعي في البلدان الليبرالية الغربية. ففي دول الاتحاد الأوربي، بدأ اعتماد قانون جديد لتنظيم الخدمات الرقمية يهدف إلى حماية حقوق الأفراد والمجموعات من الانتهاكات والتجاوزات التي قد تنتج عن مواقع التواصل الاجتماعي، تمديداً لنفس المدونة القانونية والأخلاقية الضابطة للمجال الإعلامي المكتوب والسمعي البصري التقليدي. وفي بريطانيا تم إنشاء سلطة مستقلة لضبط شبكات ووسائط الاتصال الرقمية الحديثة وفق القوانين الضابطة لحرية التعبير العمومي. وفي الولايات المتحدة تزايدت الأصوات المطالبة برقابة مضامين الشبكات الاجتماعية، بل صدرت بالفعل إجراءات عقابية وتأديبية ضد التجاوزات الإلكترونية المتعلقة بتشويه المجموعات العرقية أو الاجتماعية (group label) أو بخطاب الكراهية (hate speech). ومع أن خطاب ماسك حول تحرير التعبير العمومي في شبكة تويتر، قد يفهم منه الحرصُ على مبدأ حرية الوعي والتفكير الذي هو أساس الديمقراطية التعددية الحديثة، إلا أنه يتضمن في الوقت نفسه خطرَ انتهاك خط التمييز الضروري بين حق التعبير المضمون والاستخدام غير الشرعي للكلام العمومي. في كتابها الهام «إنقاذ حرية التعبير»، تدعو الفيلسوفة الفرنسية «مونيك كانتو سيبربر» إلى التمييز بين ثلاثة مفاهيم متمايزة، وإن كانت متقاربة، هي حرية الاعتقاد وحرية التعبير السياسي وحرية الكلام الاجتماعي. فإذا كانت حرية الاعتقاد هي نتاج عصور الإصلاح الديني والتنوير الفلسفي، وكانت حرية التعبير السياسي من لوازم الديمقراطية الليبرالية الحديثة، فإن حرية الكلام الاجتماعي لا بد أن تخضع لضوابط ومعايير تنظيمية لأنها قد تصطدم بكرامة الإنسان وحقوقه. وذلك ما أدركه المفكرون الليبراليون أنفسهم بعد أن اتسعت إمكانات التعبير في المجال العمومي بفضل وسائل الاتصال التقليدية ثم الرقمية الراهنة، فتزايدت التشريعات والقوانين الهادفة إلى تجريم الاستخدام التمييزي أو التشهيري للكلام الاجتماعي، إلى حد الدخول في مضامين الأدوات العلمية والأكاديمية، كما هو الشأن حالياً في الأوساط الجامعية والبحثية الأميركية التي تصاعدت فيها موجة «ثقافة الإلغاء» و«اليقظة» المرتبطة بمطالب الإنصاف والعدالة لدى الأقليات الملوّنة والجماعات الأصلية. لقد ظهر في السنوات الأخيرة أن انفجار حرية الكلام من خلال الثورة الرقمية التواصلية الجديدة لم يؤد إلى ما كان يعتقد من دفع وتوطيد حركية النقاش العمومي الحر، بل إن هذه التحولات أفضت إلى ظواهر جديدة من قبيل «ما بعد الحقيقة» و«الوقائع المخترعة»، بما أضاع الحد الفاصل الضروري بين الخبر الوصفي والموقف المعياري. وكما تقول حنة ارندت، فإن «حرية التعبير ليست سوى أضحوكة إذا لم تضمن صحةَ الوقائع، وإذا لم تصبح الأخبار نفسها موضوعَ نقاش وجدل».
مشاركة :