"كسر"، قبل أيّام قليلة، "الشيخ" نظير جشي "قسطل المياه"، فذاع "صيته". وقد تعرّف اللبنانيون إلى جشي، بعدما أطلّ عبر وسائل التواصل الاجتماعي بخطبة انتخابية تهدف الى التسويق في البيئة الشيعية اللبنانية لـ"حزب اللّه" ضدّ منافسيه عموماً وضدّ حزب "القوات اللبنانية" خصوصاً. ويمكن اختصار الأدبيات التي استعملها جشي في خطبته بنقطتين: انتخاب خصوم "حزب الله" يعني جذب النساء الى "الرذائل السياحية"، وحزب "القوات اللبنانية" هو حزب مدعوم من "الصهيونيّة والوهّابية". وبعد أن أحدثت مواقف جشي ضجة شعبية وإعلامية وسياسية واسعة النطاق في لبنان، غسل "حزب الله" يديه منه، واصفاً كلامه بـ "المشبوه"، منوّهاً بأنّ مطلقه ليس شيخاً معمّماً، وفق سجلات المجلس الشيعي الأعلى، ولكنّه "صاحب سوابق جرمية"، وفق سجلّات القضاء اللبناني. وسائل الإعلام التي شاركت "حزب الله" مساعيه لإعلان براءته من جشي كشفت أنّه سبق أن درس في حوزة إيرانية، حيث جرى تعميمه. وهذا يفيد بأنّ "حزب الله" يريد أن يؤكّد أنّه ليس مسؤولاً عن كلام جشي، وأنّ مواقف هذا الأخير مهما كان نوعها لا يُمكن محاسبة "حزب الله" عليها، وتالياً لا يمكن اعتمادها في الحملة الانتخابية ضدّه أو ضدّ حلفائه في البيئات الرافضة لهذا النوع من الخطاب السياسي. ولكن، هل هذا يعني أنّ جشي في ما ذهب إليه في خطبته يناقض فعلاً ما يقوله "حزب الله"، في العلن، خارج فترة الانتخابات النيابية، وما يقوله، في السر" خلالها؟ في واقع الحال، إنّ هذا الشيخ الذي كان قد جرى تعميمه في حوزة علمية في إيران، مثله مثل كثير من رجال الدين الذين ينتسبون إلى "حزب الله"، لا يبتدع أدبيات لم يسبق لـ"حزب الله" نفسه أن نطق بها، في أوقات سابقة. إنّ النظرة الى حزب "القوات اللبنانية" التي جسّدها جشي، هي نظرة "حزب الله" نفسه، وسبق أن عبّر عنها بالأدبيات نفسها، فالحزب يقول إنّ إسرائيل والمملكة العربية السعودية توفران الدعم لـ"القوات اللبنانية"، والحزب نفسه هو من يطلق على إسرائيل اسم "الصهيونية" وعلى المملكة العربية السعودية مصطلح "الوهّابية". وفي هذا لم يخرج جشي في خطبته عن أدبيات "حزب الله" بل التزم بها التزاماً تاماً. و"حزب الله" نفسه كان قد أعلن، مراراً وتكراراً، في مناسبات كثيرة خارج مرحلة الانتخابات النيابية، أنّ هناك قوى خارجية تريد تحويل لبنان الى "كاباريه" و"كازينو"، وهاجم وجود سيّدات مطلّقات في الجسم التربوي على اعتبار أنّهنّ نماذج سيّئة للتلميذات، وحرّم الاستماع الى المطربين حتى لو كانوا يؤدّون أناشيد دينية، وخلاف ذلك الكثير الكثير. ويمتلئ الأرشيف بمواقف مسؤولي "حزب الله" حول كثير من هذه المسائل: جزء أوّل قاله أمينه العام حسن نصرالله، وجزء ثانٍ قاله نائبه الشيخ نعيم قاسم وجزء ثالث قاله رئيس كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب محمّد رعد. ويعتبر ما سبق إنْ قاله رعد هو الأقرب إلى ما أورده الشيخ نظير جشي في خطبته قبل أيّام. في الثاني عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) 2013، قال رعد: "كان لبنان مكان عقد صفقات وكان ساحة للملاهي الليلية والسمسرات، لكنّنا الآن نريد أن نخلق لبنان الجديد الذي ينسجم مع وجود المقاومة". في التاريخ الّذي أطلق فيه رعد كلامه لم تكن هناك انتخابات نيابية، بطبيعة الحال، ولكنّ لبنان كان يخوض معركة سياسية طاحنة لتشكيل حكومة برئاسة تمّام سلام. يومها، وقفت "قوى 14 آذار" ضدّ انضمام "حزب الله" الى الحكومة إذا لم يسلّم المتّهمين باغتيال الرئيس رفيق الحريري الى المحكمة الخاصة بلبنان التي كانت تستعد غرفتها الأولى لبدء محاكمتهم، فرفع "حزب الله" الصوت، مقدّماً الأسباب الموجبة التي تجعله يصر على منع قيام حكومة لا تكون في خدمة "خلق لبنان الجديد" الذي "ينسجم مع وجود المقاومة". وإذا كان الشيخ نظير جشّي قد ربط بين انتخاب "حزب الله" وإرادة عدم مشاهدة النساء على شواطئ المعاملتين وجونيه وجبيل "ومدري وين"، فإنّه، في واقع الحال بدا أكثر "لطفاً" ممّا كان قد ذهب اليه رعد، لأنّ جشي يتستّر بلباس رجل الدين الذي يَنهي بطبيعته عمّا يعتبره "منكراً"، بينما رعد بصفته مسؤولاً سياسياً في المجلس النيابي، فإنّ كلامه يأخذ أبعاداً خطيرة للغاية، إذ يُظهر أهداف "حزب الله" المتوسّطة والبعيدة المدى التي لا بدّ من أن يعمد الى تحقيقها، عندما يتمكّن من الإمساك بكافة أدوات التشريع والتنفيذ والتهديم والإهتراء. ولقد تحقق جزء يسير من هذه الأهداف، بقوّة الإنهيار المالي والإقتصادي، في السنوات الثلاث الأخيرة. وإذا كان جشي يحذّر من أنّ انتخاب خصوم "حزب الله" يعني تقوية تيارات "الرذائل" في لبنان التي اختصرها بإزالة الضوابط التي تحول دون توجّه "نسائنا" الى الشواطئ "غير الشرعية"، فإنّ رعد يريد لبنان خالياً من كلّ مكوّنات السياحة والخدمات التي أشار إليها بمصطلحات دالة: عقد صفقات (التجارة ومستلزماتها) وملاهٍ ليلية (السّياحة وبنيتها التّحتّية) وسمسرات (النظام المصرفي ووظائفه). وعليه، فإنّ تنصّل "حزب الله" من الشيخ نظير جشي، هو تنصّل من توقيت خطبته، لأنّه يلحق الضرر باستراتيجيته الانتخابية، وليس تنصّلاً من مضمون خطبته، لأنّه، في الواقع، يتقاطع كليّاً مع أدبيات "حزب الله" السياسية المثبتة.
مشاركة :