مؤخرا نشر موقع "المونتر/ Al-monitor" الأميركي مقالا باللغة الإنجليزية تحت عنوان: "هل سيشاهد الإيرانيون قناة تلفزيونية بالفارسية ممولة من السعودية؟" للكاتب الإيراني المقيم في أستراليا محمود بارقو، وقد أشار الكاتب إلى مقالتي التي كانت تحت عنوان "إيران وفلسفة الأمن السياسي والإعلامي الخليجي". يقول الكاتب إن العقبة الرئيسة التي تواجه الرياض للوصول إلى الجمهور الإيراني، هي فقدانها أدوات القوة الناعمة، وإن الإيرانيين ينظرون إلى السعودية من النافذة السَلَفيّة، كما أن الجمهور الإيراني ينظر باستعلاء تجاه جيرانه العرب، بينما ينظرون إلى الغرب والإعلام الغربي في الإطار الثقافي والتاريخي! يذكر الكاتب أيضا، أن هناك العشرات من المحطات التلفزيونية التي تبث باللغة الفارسية، فما الميزة التي ستتمتع بها قناة مدعومة من السعودية لتجذب المشاهد الإيراني؟ ثم يقول إن التوجه المعادي للسعودية بين الأوساط الإيرانية سيحول دون تعاون الخبراء والإعلاميين الإيرانيين معهم. وكذلك يرى كاتب المقال أن السنة في إيران لن يقتنعوا بالإعلام السعودي ولن يتابعوه، إذ يحاولون الابتعاد عن السلفية السعودية. وختاما، يزعم أنه إذا رغبت الرياض في الوصول إلى الجمهور الإيراني فإن ذلك لن يحدث عبر المحطات التلفزيونية الناطقة بالفارسية، بل خلال الثقافة والفن والنمط المعيشي. بعد هذا الاستعراض الموجز للمقال، بداية، نوضح للقارئ الكريم أن الفكرة الرئيسة التي ركزت عليها في مقالي المشار إليه أعلاه هي تكثيف إيران حملاتها في وسائل الإعلام المختلفة، التقليدية منها والحديثة، للترويج لمشروعها القومي والمذهبي الذي يخدم التوجهات السياسية لنظام ولاية الفقيه، والمطالبة بقنوات بعدة لغات أجنبية أهمها الإنجليزية لتوضيح الموقف العربي والخليجي من القضايا الحيوية في المنطقة والعالم للرأي العام الغربي، في ظل ما نشهده من حملات إعلامية موجهة ضد دول الخليج العربي والسعودية تحديدا. يمكننا مواجهة ونقض كل ما ذكره الزميل الإيراني بسؤال واحد يتمثل في: ما النموذج المقنع للمشاهد العربي الذي تقدمه وسائل الإعلام الإيرانية مثل العالم والمنار والميادين وأكثر من 20 محطة تلفزيونية طائفية مدعومة من إيران وإذاعة إيران الناطقة بالعربية وصحف مثل كيهان والوفاق العربيتين علاوة على النسخ العربية لجميع وكالات الأنباء الإيرانية؟ هل قدمت جميع هذه الوسائل الإعلامية الإيرانية إضافات ثقافية أو فنية أو نمطا حياتيا إيرانيا مقنعا للمشاهد العربي؟ على العكس من ذلك تماما، لقد ازداد كره الشارع العربي للنظام الإيراني، ولا أقول الشعب الإيراني. هنا، يمكن للدول الخليجية، من بينها المملكة العربية السعودية، أن تتعلم من الأخطاء الفادحة التي وقعت فيها وسائل الإعلام الإيرانية الموجهة إلى الشارع العربي، وتنهج في خطابها للمشاهدين بالفارسية منهجا أكثر عقلانية وإقناعا، وتخاطب العقول بعيدا عن الأيديولوجيا والمناكفات السياسية. بعبارة أكثر وضوحا، ما نطالب به ليست قنوات أو محطات إذاعية أو مواقع إخبارية بأموال عربية لمواجهة نظيراتها المدعومة من إيران وبالأسلوب ذاته. بل نرى ضرورة الابتعاد عن الصراعات المذهبية والسياسية، وتقديم مواد إعلامية ثقافية وأدبية وفكرية ستجد قبولا لدى المشاهد الإيراني. الواقع يقول إن النظام الإيراني يخشى كثيرا وسائل الإعلام الأجنبية الناطقة بالفارسية، ونرى ذلك في الحرب التي تشنها طهران على الأطباق اللاقطة "الدشوش"، وإبعاد مراسلي القنوات الأجنبية، خاصة الناطقة بالفارسية، وحجب كثير من المواقع الإخبارية على الإنترنت، علاوة على حجب معظم وسائل التواصل الاجتماعي، واعتقال كثير من الشباب الإيراني بسبب نشاطه على هذه المواقع. والسؤال هنا: ألا يعني ذلك أن النظام الإيراني يخشى وصول الشعب إلى وسائل إعلامية تغرد خارج صندوق ولاية الفقيه، وبالتالي تفضح مدى التضليل الذي يقوم به النظام تجاه الشعب الإيراني على نمط كوريا الشمالية؟ مؤخرا، نشرت وكالة أنباء مهر شبه الحكومية خبرا عن عزم إحدى القنوات الفارسية التي تبث من الخارج ببث مسلسل باللغة الفارسية بعنوان "كالرى ممنوع"، ويمثل فيه شباب إيرانيون مقيمون في لندن. إيران عنونت للخبر بـ"مرحلة جديدة من هجوم القنوات الناطقة بالفارسية"، وأن ذلك يستهدف الثقافة الإيرانية على حد زعمها. إن هذا الحدث دليل واضح على مدى خشية النظام الإيراني من انفلات الأوضاع من يده في الداخل، ويهمش الشعب ما يسمى بـ"ثوابت الثورة"، مما يقود مع تقدم الوقت إلى خلع هذه العباءة التي تم إلباسها للمجتمع الإيراني عنوة. بعبارة أكثر وضوحا، يرتعب النظام الإيراني من النفوذ الخارجي مهما كان نوعه، سواء كان غربيا أم شرقيا، وهذا شعار برز جليا في كلمات وخطب المرشد الأعلى الإيراني، منذ التوصل إلى الاتفاق النووي مع مجموعة 5+1، لأنه يرى أن الانفتاح على الخارج سيؤدي إلى خسائر كبيرة على المستوى الداخلي، وقد يقود إلى تهشم صورة النظام أمام المجتمع، وتبخر الشعارات التي ظل النظام يرددها طوال العقود الأربعة الماضية. أما فيما يتعلق بعدم مشاركة ما اسماه الكاتب بـ"الخبراء الإعلاميين الإيرانيين"، فأعتقد أن دول الخليج تحتاج إلى خلق الكوادر المدربة والمؤهلة، كما أن استقطاب الشباب الإيراني الطموح لن يكون معضلة كبيرة، فالذي أقنع الإعلامي الإيراني في المهجر بالعمل في bbc، وإذاعة فردا، وصوت أميركا، وراديو زمانه، والمواقع الإسرائيلية، سيقنعه بالعمل في محطة فارسية أخرى، لا سيما أن الهدف من هذه القنوات ليس معاداة الشعب الإيراني أو اختلاق القصص والأخبار، بل إن المهنية الإعلامية والتوازن في الطرح سيكونان- وينبغي أن يكونا كذلك- العاملان اللذان يجب المراهنة عليهما في أي وسيلة إعلامية جديدة، لا سيما إن كانت تبث بلغة أجنبية. من هنا نقول، إنه من الضرورة بمكان تأسيس قنوات تلفزيونية ومواقع على الإنترنت جميعها ناطقة باللغة الفارسية، لبناء علاقات عربية وخليجية جيدة مع المجتمع الإيراني، بعيدا عن سياسة "الشيطنة" التي يتبعها النظام الإيراني عبر وسائله الإعلامية، ولتصحيح كثير من المفاهيم الخاطئة والصور النمطية، ويبقى القرار للمجتمع الإيراني في الاختيار بين الحقيقة الواضحة والمزاعم الكاذبة، بين التضليل وكشف الحقائق كما هي، بين الواقعية في الطرح وبين النزعات القومية والمذهبية، وشخصيا أعتقد أن المجتمع الإيراني بكل مكوناته العرقية والدينية والمذهبية يستطيع في نهاية المطاف التمييز بين هذين النوعين إذا ما طُرِحا أمامه، والجمهور صاحب القرار في نهاية المطاف، بعيدا عن الأحكام المسبقة أو المحاولات المضللة.
مشاركة :