الظن لا يغني عن الحق شيئا ومع ذلك نبني عليه معظم قراراتنا.. من حقك أن تظن وتخمن وتتوقع ولكن لا يعني كل هذا أنك على صواب.. لا يمكنك الجزم بصوابك قبل أن تتأكد وتجرب وترى بنفسك وترينا معك على أرض الواقع.. الفرق بين التجربة والظن.. بين التأكيد والتخمين.. هو الفرق بين العلوم الحقيقية (كالهندسة والطب والفيزياء)، والعلوم الوهمية مثل معظم تخصصاتنا التنظيرية.. الفرق بين الاثنين أن الأولى لها نتائج تطبيقية مفيدة وملموسة وتخضع للتجربة (بحيث لا يختلف عليها اثنان) في حين تعتمد الثانية على الرأي والظن فيختلف حولها الجميع في حين لا يؤثر وجودها أو اختفاؤها في عامة الناس.. والتجارب العمياء من الوسائل المفيدة في رصد النتائج والتأكد من الحقائق خصوصا التجربة مزدوجة التعمية أو Double Blind Experiment.. وكلمة (التعمية) هنا مشتقة من العمى ويقصد بها إخفاء الشيء وجعله مجهولا وغير مرئي لأحد.. أما كلمة (مزدوجة) فتعني مضاعفة وسيلة "التعمية" بحيث يصعب حتى تخمينها أو توقع نتائجها.. خذ كمثال مايحدث في عالم الطب وتجربة العقاقير الجديدة.. فالظنون والميول البشرية قد تؤثر في موقفنا من الأدوية الجديدة (بحيث يصعب معرفة فعاليتها بشكل محايد ومجرد).. فالعامل الوهمي لدى المريض يجعل 30% منهم يشفون بمجرد إعطائهم أدوية وهمية غير حقيقية.. وعلى الجانب الآخر قد يكون الطبيب أو الباحث (أو حتى شركة الأدوية) متحيزا أو متحمسا للاكتشاف الجديد فيميل لتقييمه بشكل ايجابي أو يملك موقفا مشككا من العقار الجديد فيميل لتقييمه بشكل سلبي.. في هذه الحالة؛ كيف يمكننا التخلص من توهم المريض وتحيز الباحث؟ الحل يكمن بإجراء تجربة مزدوجة التعمية بحيث يقسم المرضى إلى قسمين رئيسيين.. القسم الأول يعطى (أدوية حقيقية) تضم المادة الفعالة التي ننوي اختبارها، والثانية تعطى (أدوية وهمية) من النشا أو السكر مطابقة للأدوية الحقيقية في الشكل والمظهر وطريقة التغليف.. وكي نتخلص من توهم المرضى وتحيز الباحثين لا يجب أن يعرف أي منهم أي فريق يأخذ الأدوية الحقيقية وأيهم يأخذ الوهمية (ولهذا تدعى مزدوجة التعمية).. وفي نفس الوقت يقوم فريق ثالث (ليس له علاقة بأي طرف) برصد النتائج بطريقة رقمية ورياضية محايدة.. وحينها فقط يتم التخلص من الميول والمواقف البشرية التي تؤثر في حكمنا على النتائج، ولا يتبقى لدينا سوى أرقام واحصائيات تؤكد أو تنفي فعالية الاكتشاف الجديد... وتجربة كهذه يمكن أن تحدث بطريقة أبسط بحيث تكون مفردة التعمية Single Blind أن يعلم الباحث بحقيقة الدواء ولكنه يخفي الأمر عن المرضى لقياس نسبة نجاحه بينهم.. كما يمكن أن تكون أكثر تعقيدا بحيث تصبح ثلاثية التعمية Triple Blind بحيث تخفى على أفراد الدراسة والباحث الذي يقوم بالدراسة والشخص الذي يقوم بالتحليل واستخلاص نتائج الدراسة. على أي حال؛ لاحظ أن المثال الذي قدمناه في هذا المقال اقتصر لضيق المساحة على الطب واختبار الأدوية الجديدة، في حين يمكن استعمال "التجارب العمياء" لاختبار النتائج في تخصصات علمية وتطبيقية كثيرة.. ورغم أن جابر بن حيان (عالم الكيمياء العربي) هو أول من وضع المنهج التجريبي في العلوم.. ورغم أن ابن سينا هو أول من وضع مبادئ التجارب السريرية في الطب، إلا أن الغرب هو أول من تبنى أساليبهما في البحث العلمي، في حين بقينا نحن على حالنا نُخمن ونُنَظّر ونَظُن ونقول "إن الظن لا يغني عن الحق شيئا".
مشاركة :