قبل فترة من وفاة الفنانة الراحلة محسنة توفيق، التي تمر في هذه الأيام ذكراها الثالثة، شاهدت لها لقاءاً تلفزيونياً قديماً أعادت قناة دبي زمان عرضه، تحدّثَت فيه عن شخصيتها الحقيقية التي ﻻ تعكسها أدوارها التي طالما كانت جادة ومُرَكّبة. فقد قالت، وهذا ما بدا فعلاً خلال اللقاء، أنها بسيطة ومَرِحة جداً، تحب الفكاهة، لكن جدّية مَظهرها ورُقي شخصيتها دفعت المخرجين الى ترشيحها لهذه الأدوار وأهّلتها لها، وبالفعل بَرَعَت فيها بجدارة وأستاذية، سواء في السينما أو التلفزيون أو المسرح. وُلِدت الفنانة محسنة توفيق عام 1939، وهي الأخت الكبرى من بين ثلاث أخوات جميعهن فنانات. فشقيقتها فضيلة المعروفة بـ"أبلة فضيلة" كانت مقدمة برامج إذاعية، والثانية يسرا كانت مغنية أوبرا، أما هي فقد بدأت مشوارها الفني في المسرح المدرسي منذ كانت طالبة بعمر9 سنوات، لكنها وقفت على خشبة المسرح الى جانب ممثلين كبار لأول مرة عام 1962 في مسرحية "مأساة جميلة"، ثم باتت ركناً مهماً من أركان المسرح القومي الذي قدمت فيه حوالي 30 مسرحية، الى جانب 80 عملاً فنياً في التلفزيون والسينما والإذاعة. كانت مبهرة في جميع أدوارها، ولإثبات ألمَعيتها كمُؤدية، وأستاذيتها كممثلة، لنفسي وللآخرين، حينما يرد ذكرها خلال الحديث عن السينما والتلفزيون، لطالما لجأت الى مقارنة أدائها في مسلسل ليالي الحلمية بدور أبلة أنيسة خالة على البدري، بأداء زميلتها فردوس عبد الحميد. ففي أداء محسنة توفيق إجتمعت الجدية والرُقي مع البساطة والتلقائية، في حين تميّز أداء زميلتها، كعادتها مع إحترامي لتأريخها وإعجابي ببعض أدوارها، بالتكلف والمبالغة والنواح المبالغ فيه. عُرِفَت الفنانة الراحلة بمواقفها السياسية التي كانت تتخذ شكل الوقوف الى جانب الفقراء والتعبير عن مُعاناتهم، وتقول: "كنت دائما أسأل نفسي عن سبب تظاهر العمال والطلبة منذ أن كنت صغيرة، وعرفت بأنهم عانوا من الضغط وسوء المعيشة، وظلت هذه الفكرة تشغلني طوال حياتي". لذا حُسِبَت على اليسار، رغم أنها كانت ترفض التَحَزّب السياسي بكافة توجهاته. ورغم إعجابها بعبد الناصر، إلا أنها سُجِنت سنة ونصف في عهده لإنتقادها بعض قراراته، وذكرت مرة بأنها إستُبعِدت لفترة من المشاركة في بعض الأعمال السينمائية والتلفزيونية بسبب مواقفها السياسية، كما طُلِب منها تغيير مواقفها السياسية لكنها لم تفعل. لكن هذه المواقف السياسية يفترض أن لا تعنينا حينما نسعى لتقييمها كفنانة، بقدر إختياراتها الفنية. أولاً لأن موقف الفنان السياسي لنفسه، أما إختياراته الفنية فهي لي كمُشاهد لأنها ستشكل وعي مجتمعي وذائقته الانسانية. وثانياً لأن الموقف السياسي يتلاشى ويفقد بريقه وحتى قيمته بتقادم الأحداث والشخوص وإعادة تقييمها، أما الاختيارات الفنية فتُخَلِّدها أعمالها، والتي بدورها تُخَلِّد أصحابها، في سِفر الفن وذاكرة المشاهدين والمستمعين. وقد كانت الراحلة ذكية في إختيارها لنوعية أدوارها ولطبيعة الأعمال التي تشارك فيها، والتي كان لحضورها فيها دور في نجاحها. فمن منا لا يذكر "ليالي الحلمية" و"الشوارع الخلفية" و"أم كلثوم" و"اللص والكلاب" و"المفسدون في الأرض" و"المرسى والبحار" الذي كان آخر أعمالها المعروضة. أما أخر عمل شاركت فيه فهو مسلسل "أهل الإسكندرية" الذي أنتِج عام 2014، لكن قبل بأنه لم يُعرَض لأسباب سياسية. لذلك أنا كمُشاهد لا أراها "بهية" في فيلم العصفور الذي كان فيلماً يوسف شاهينياً إنفعالياً من تداعيات النكسة، ككل ردود أفعالنا على خيبات حكوماتنا ومجتمعاتنا المتلاحقة، إنتهى بطريقة استعراضية شعاراتية بقولها:"حَنحارب". فالأيام أثبتت أن السلام هو الذي أعاد الأرض التي أضاعَتها الحروب، لكن هذه العقلية لا ترضى أن تفارق عقول مجتمعاتنا، وﻻ تزال مؤثرة لدى الكثيرين، وتمنعهم من رؤية الواقع. لذا توقفوا وتوقف الزمن عندهم عند دورها هذا، لأن ما يجذبهم هو البُعد السياسي وليس الفني لأدوارها، ولم يُثِر إنتباههم ولم يؤثر فيهم تألقها وتمَيّزها فيما بعد بدور"أبلة أنيسة" في مسلسل ليالي الحلمية. فرغم أن بصمتها متميزة في كل أدوارها، إلا أن دور بهية كان يمكن أن تقوم به وتبرع فيه غيرها من الممثلات اللواتي يتميزن مثلها بقوة أدائهن وشخصيتهن، كالرائعة سهير المرشدي مثلاً، ونحن نعلم جميعاً أن أجواء وأساليب أداء الممثلين في أعمال يوسف شاهين تخرج بالنهاية وفق رؤيته الفنتازية، أما دور أنيسة فقد أدّته بكل تعقيداته بشخصيتها ووفق إسلوبها وأضفت عليه من خبرتها على مدى عدة أجزاء، بعد الفنانة فردوس عبد الحميد، ومن خلاله يظهر تمَيّز حضورها وأدائها في أدوارها عن قريناتها بوضوح. ويبدو أن يوسف شاهين نفسه لم يفهم هذه الجزئية في محسنة توفيق رغم معرفته الطويلة بها وإعجابه بالعمل معها، بدليل إستعانته بها في أكثر من فيلم، وهي"إسكندرية ليه، العصفور ووداعاً بونابرت". فقد أبعدها عن دور كان مفصلاً عليها وكانت ستؤديه ببراعة، بسبب شطحة من شطحاته. فحينما سُأِلَت في آخر لقاء تلفزيوني معها عن الدور الذي كانت تتمنى تقديمه أجابت أنه دور"صدّيقة" الذي قدمته الراحلة داليدا في فيلم "اليوم السادس" الذي فشل فشلاً ذريعاً لأن بطلته كانت من حي شعبي، في حين كانت داليدا تتحدث اللغة العربية بلكنة أجنبية، وأضافت:"حزنت لما شُفت الفيلم، فأنا كنت سأقدم الدور بشكل أفضل لأني كنت حاساه، وفعلاً عملت معاه بروفات وإبتدينا نصور، بعدها طلعت داليدا في دماغه عشان مشهورة عالمياً، وألغى المشاهد اللي عملتها وجابها مكاني، وبعد ما إتعَرَض الفيلم قلت له أنا مش مسامحاك يا يوسف". نالت الفنانة الراحلة محسنة توفيق عدة تكريمات خلال مسيرتها الفنية، كان آخرها وأقربها الى قلبها، كما ذكَرَت بَعدَه في لقاء تلفزيوني، هو تكريمها مِن قبل مهرجان أسوان السينمائي الدولي لسينما المرأة عن مجمل أعمالها، في دورته الثالثة التي أٌقيمت في فبراير 2019، أي قبل ثلاثة أشهر من رحيلها عَن عُمر ناهز الثمانين عاماً.
مشاركة :