الرَّمادي سيّد ألوان الشتاء السياسي العربي المقبل | عبدالمنعم مصطفى

  • 12/11/2015
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

حنين جارف يسحب الجماهير من عصر الصورة الملوّنة إلى زمن الأبيض والأسود، مصدرُ هذا الحنين في الغالب، قد يكون أن مستوى الانكشاف الذي تسمح به الألوان، أعلى أحيانًا، من رغبة المشاهد في تصديق المشهد، أو أنَّه لا يسمح ببعض الغموض الضروري لتقبّل الحقائق على أنّها كذلك، أو أن اتّساع المسافة بين الأبيض والأسود، لا يسمح بتداخل ألوان يراه البعض خداعًا للبصر، أو تمويهًا للحقيقة، غير أن الاحتمال الأرجح في تقديري، هو أن عموم الناس، لا يريدون بذل جهدٍ كافٍ لبلوغ الحقيقة، فيعينهم الأبيض والأسود على سرعة الانحياز إلى ما يرونه خيرًا، على حساب ما يعتقدون أنَّه الشرُّ. خيارات السياسة تقع غالبًا في المنطقة الرَّمادية، حيث يمتزجُ الأبيض والأسود، على نحو قد يثير الالتباس لدى البعض، وبسبب هبوطٍ اضطراريٍّ شبه دائم لصُنَّاع السياسة في المنطقة الرَّمادية، جلبًا لمصلحةٍ، أو دفعًا لضررٍ، يبذلُ رجالُ السياسةِ جلَّ جهدِهم، في تسويقِ أفكارهم لدى جمهورٍ من الرومانسيين الذين يصرُّونَ على أنَّ الحياة، إمَّا أبيض، أو أسود. السياسة، في بعض تجلِّياتها، هي فنُّ صناعة التعايش بين الأفكار المتناقضة، أو فنُّ صياغةِ المصالحات بين المتناقضات، ولهذَا يتطلّب تسويق مخرّجات السياسة لدى جمهور الحماسة، جهدًا فائقًا، ربما يسدِّدُ السياسيُّ حياته في نهاية المطاف ثمنًا له، وكلّنا نذكر كيف دفع الرئيس المصري الراحل أنور السادات، حياته ثمنًا لتحوّلات في السياسة أخفق بعض المتطرِّفين أو المهووسين في استيعابها، ورأوا في قتل الرجل قتلاً لأفكاره. اللّونُ الرَّماديُّ حاضرٌ دائمًا على طاولات التفاوض، بل إنه ربما يكون الحاضر الوحيد، في عصر بات مستحيلاً فيه تحقيق انتصارٍ كاملٍ بلمسِ الأكتاف، أو بالضربةِ القاضيةِ الفنيةِ، فأغلبُ محترفي السياسة، يُفضِّلونَ الفوز بالنقاط، لأنَّ توابعَ الضربة القاضية، قد تكون مؤلمةً على الطرف المنتصر بصفة خاصة، إذ إنَّها لا تدعُ للمهزوم خيارًا آخر سوى الانتقام، وتنقله من منطقة طالب الحلِّ، إلى منطقة طالبِ الثَّأرِ. في محادثات فصائل المعارضة السلمية السورية المنعقدة بالرياض، قد يذهبُ كلُّ فصيل في تصوّره للحلِّ النهائيِّ، إلى مدى أبعد من باقي الفصائل، لكن الجائزة في هذه المحادثات لن ينالها مَن يذهب إلى مدى أبعد، وإنَّما من يستطيع المساهمة في «إنجاز توافق» حول رؤية مشتركة للحلِّ النهائيِّ، يكون هدفها الأول والرئيس، حماية وحدة الأراضي السورية، وضمان بقاء الدولة السورية الواحدة الموحّدة، وعودة اللاجئين والنازحين السوريين إلى مدنهم وقراهم، والتوافق حول طبيعة النظام السياسي الذي يريده السوريون لأنفسهم، ثم حول آليات تحقيق تلك الأهداف. أيّ صيغة لا تضمن للحلِّ السياسيِّ، الاستدامةَ، هي في الحقيقة ليست حلاًّ للمشكلةِ، وإنَّما تأجيل لزمن انفجارها مجددًا. الاستدامةُ، تقتضي بناءَ توافقٍ حقيقيّ، حول مقوّمات حقيقية للتعايش، فوق منطقة رمادية في الغالب، لم تكن حلمًا لدى أيٍّ من أطراف التفاوض، لكنَّها تُجسِّدُ منطقة «الممكن»، حيث لا حكمةَ من الإصرارِ على ملاحقةِ المستحيل. أفكار المنطقة الرَّمادية تلك، تَعِدُنَا بإنجازاتٍ رماديةً مثلها تمامًا، ما يتطلّب مهارات تسويقية عالية لتلك الأفكار، لدى جماهير تصرُّ على ملاحقةِ مستحيلٍ، يُروّج له حالمون عبر مواقع التّواصل الاجتماعيّ، أو من خلال إعلامٍ «تعبويٍّ» في الغالب، اعتاد مخاطبة الغرائز لا العقول. ما قلتُه عن مفاوضات تجمع الأضداد أحيانًا، بهدف بناء توافق «رماديٍِّ» غالبًا، ينطبقُ على حال الفصائل السورية «السلمية»، كما ينطبق على سائر الأطراف في أيّة مفاوضات أخرى، مثل الفصائل الليبية، التي تبدو في هذه اللحظة على مشارف اتفاق، يصفه البعض بأنَّه «تاريخيٌّ» للخروجِ بليبيا من منطقة الصراع، إلى منطقة التسوية، عبر بناء صيغٍ للتعايش مع واقع جديد، أفرزته سنواتٌ من الصراعات الدموية فوق الأرض الليبية. ما يجري على طاولات التفاوض في ليبيا، وسوريا، وربّما -لاحقًا- في اليمن، قد يُؤذِن بولادةٍ جديدةٍ لنظمٍ سياسيةٍ عربيةٍ، تستوعب حقائق الاختلاف، وتقر بالتنوع وتُحفِّز على التعايش، وكلها (الاختلاف، والتنوّع، والتعايش) مقوّمات لصيغ ديمقراطية قابلة للاستدامة، وقادرة على الوفاء بمقتضياتها. فتّشوا بين أمنياتكم، عن أحلام رمادية قابلة للتحقّق، وتمنّوا معي أن يصبحَ الرَّماديُّ سيَّدَ ألوانِ الشتاءِ العربيِّ القادمِ. moneammostafa@gmail.com

مشاركة :