من طبعنا كبشر السهو والغفلة، وإن لم تلامسنا مشكلة الإعاقة، بشكل مباشر، فنحن غالباً ما ننسى ظروف أصحابها القاسية ومعاناتهم في تجاوز تلك المحنة. وقفت يوم أمس أمام نادل المقهى في محل القهوة التي أفضلها، كان أمامي شخص واحد فقط، فتى في أوائل عقده الثالث فوقفت خلفه. انتبهت إلى أنه من فئة الصم والبكم؛ لأنه كان يحرك يديه بإشارات دون أن يفتح فمه، أخذ الأمر منه لإيصال ما يريد للنادل وقتاً ليس بالقصير، والنادل الذي كان يحاول -بإحضاره عينات من الدونات وأحجام الأكواب وأنواع القهوة- معرفة مراد الفتى. من نظرات النادل المتكررة إلي وبعد فترة انتبه إلى أني أقف وراءه، أفسح خجلاً لي المجال؛ لكي أقدم طلبي مؤثراً أن ينتظر بعدي. إذ أشار بيديه إلى منصة الطلبات منتحياً جانباً. لم أعرف ماذا أقول له، تلفظت بخليط من كلمات وإشارات معبراً عن رفضي أن أتقدم عليه. لا أظنه فهم إشاراتي بدقة، فهي لم تكن من اللغة التي يفهمها. أدركت كم نحن في ورطة؛ بسبب افتقادنا للغة مشتركة، وهو إذ كان من المستحيل عليه النطق، فنحن السليمين كنا الأقدر على ردم هوة التواصل التي تفرقنا. ذكرتني الحادثة بتلك الفئة التي تشكل -مهما صغرت- جزءا من نسيج المجتمع. فئة لا تشكو إلا من عدم القدرة على التواصل بالطريقة المباشرة أي بطريقة اللغة المنطوقة، وفيما عدا ذلك فهي سليمة عضوياً في كل أجهزتها الحيوية فيما عدا حاسة السمع، التي تكون في الغالب هي السبب المباشر إذا ما ولد الإنسان «أصم». في أنحاء عديدة من العالم وخاصة في أوروبا نشهد اهتماما كبيرا بهذه الفئة يصل إلى وجود متخصصين في لغة الاشارة والتواصل في اماكن كثيرة مثل المطاعم والمرافق ونجد احتراما وتقديرا لهم، ونحن بدورنا نحترمهم ونقدرهم ولكن نأمل ان يكون ذلك مترجما في مرافقنا ومصالحنا الحكومية، فكم شهد العالم من مخترع ومبدع وفنان من هذه الفئة التي نتعايش معها وتشاركنا حياتنا كإخوة أو أصدقاء أو أبناء أو غيرهم.. هم منا ومن أبناء تلك الأرض الغالية التي نقدرها ونجلها جميعا بكل مشاعرنا.
مشاركة :