ادّعى المقنّع الخراساني الألوهيَّة وتقنّع في حياته بقناعٍ واحدٍ من الحرير الأخضر سقط مع انتحاره بعد هزيمته والقضاء على حركته على يد جيش المهدي، لكن المعتقدات الخطيرة التي اعتنقها ومجموعة من الحقائق التاريخية والفكرية التي تتصل به وبحركته ظلّت مُحتجبةً وراء عددٍ من الأقنعة التي سعى الأستاذ سعيد الغانمي لإزالتها في كتاب (أقنعة المقنّع الخراساني: التراث الملتبس للمانويَّة والمزدكيَّة والزنّدقة في الإسلام-مع تحقيق كتاب «الرَّد على الزّنديق اللّعين» للقاسم الرَّسِّي). في هذا الكتاب الصادر عن دار الجمل في بيروت عام 2016م استطاع المؤلِّف نزع القناع الذي تنكّرت خلفه أفكار المقنّع وحلّ اللغز الذي طالما حيّر الدَّارسين عن سبب إدراج اسم الأديب ابن المقفّع (تـ142هـ) ضمن قوائم الزنادقة بعد قتله، رغم ما عُرف عنه من استقامة وموهبة عظيمة، مؤكداً وجود خلط واضح بين أفكار الرجلين. وكذلك أثبت المؤلف في تحقيقه لردّ القاسم الرّسي (الرّد على الزنديق اللعين) أن جميع الأدلّة تؤكد على أن النصوص التي ردّ عليها الرَّسي تحمل أفكار «المقنّع» لا «ابن المقفّع». ويتألف هذا الكتاب الذي يقع في 254 صفحة من أربعة فصول يليها ملحق تضمّن نص كتاب الرَّسي، وقبل الحديث عن المقنّع وتاريخ حركته حرص المؤلِّف على إزالة القناع عن حقيقة انتماء أصول تلك الحركة للديانة المزدكيَّة وليس للمانويّة أو لأي فرقة إسلامية، وانطلق في الفصل الأول (المانوية في الإسلام) من أبعد نقطة تاريخية تتعلق بها عندما أمر الملك بهرام بن سابور بإعدام ماني للقضاء عليه وعلى ديانته سنة 278م، لكن أتباعه تمكّنوا من العيش طويلاً على الهامش، وحين جاء الإسلام عاملهم المسلمون الأوائل بالتجاهل والاحتقار كونهم من الزّهاد الذين يحرِّمون حمل السلاح أو قتل الحيوانات، وكانت اهتماماتهم آنذاك تنصب على ثقافة الكتاب والاعتناء بالورق وتذهيبه، وأورد الغانمي نصاً للجاحظ (تـ255هـ) ذكر فيه أن اهتمامهم بثقافة الكتاب جزء من العبادة واستخفَّ بكتبهم التي يكثُر فيها «ذكر النور والظلمة، وتناكح الشياطين». وشرح المؤلِّف أيضاً عدداً من المصطلحات المانوية التي وردت في نصوص إسلامية مُتفرّقة، ووازن بين نظريتهم عن «الخليط المزدوج» أو «المزاج» وبين نظرية «الجوهر الفرد» عند المعتزلي أبي الهُذيل العلّاف. وقبل بلوغ الفصل الثالث (انتفاضة المقنّع الخراساني وتأسيس ديوان الزنادقة) توقّف المؤلِّف في الفصل الثاني (الزندقة الأدبية) عند إشكالية استعمال كلمة «زنديق» التي ذهب إلى أنها لم تُستعمل عند المسلمين قبل عصر المهدي (تـ169) للدلالة على من يعتنق المانويّة، وساق العديد من شواهد التراث العربي على شيوع استعمالها للإشارة إلى «دعاة اللَّذّة الحسية» ممن يصرحون بالمجون ويجاهرون بازدراء بعض الشعائر. واكتفى بإيراد «حلقات الزنادقة» الثلاث مؤجلاً الحديث عن التطور التاريخي لمصطلح الزندقة للفصل التالي. وذكر أن قوائم المتهمين بالزندقة تتسم بالتضارب وعدم الانسجام بسبب جمعها لأسماء من اتجاهات فكرية شديدة التباين، وقد ورد اسم ابن المقفع، الذي تحمّل أوزار أخطاء المقنّع، في اثنتين منها. ولجمع تاريخ حركة المقنَّع وملامح شخصيته اعتمد المؤلف في الفصل الثالث على مصادر تتنوع بين الكتب التاريخية والأدبية وكتب العقائد والديانات، ورجّح أولاً أن يكون اسمه الصحيح هو هاشم بن حكيم استناداً إلى رواية البيروني (تـ440هـ) في (الآثار الباقية)، وأورد روايات تشير إلى أن ظهوره وزعمه أنه إله كان في إحدى قرى مدينة «مرو»، مؤكداً على أن أصول حركته تعود للديانة المزدكيَّة التي ظهرت في مطلع القرن السادس الميلادي كحركة تهدف لإصلاح الديانة المانوية، ثم تحوّلت بعدها إلى ديانة مُختلفة ومستقلة. وأضاف أن ظهور المزدكيَّة الأول كان في العراق قبل انتقالها إلى خراسان مع انقلاب الملك قباذ عليها وعلى أتباعها، لتصبح منذ تلك الحادثة حركةً سرّية ذات تنظيم عسكري. ورجّح المؤلِّف في الفصل الثالث رواياتٍ لعبد القاهر البغدادي (تـ429هـ) وللبيروني تشير إلى استمرار حركة المقنَّع لمدة أربع عشرة سنة، تبدأ في عصر المنصور سنة 149هـ حين جمع الرجل أتباعه من المزدكيين والترك وبدأ في الاستيلاء على القلاع، وتنتهي مع انتحاره بتناول السُّم (أو بإحراق نفسه) سنة 163هـ بعد عامين من محاصرته في قلعة «سنام» بجيش مكوَّن من سبعين ألف مقاتل. كما يميل المؤلف إلى الاعتقاد أن تشكيل ديوان الزنادقة كان في عهد المهدي منذ سنة 161هـ، «أي حين كانت انتفاضة المقنّع الخراساني في أوج خطرها»، ولم يكن في الفترة التي حدّدتها بعض المصادر بسنة 167هـ، ورأى أن المهدي هو من أحيا مصطلح «الزندقة» ووسّع استعماله ليشمل عدداً من الفئات التي يمثل وجودها خطراً يُهدّد دولته. أمّا الفصل الرابع (القاسم الرَّسِّي وكتابه «الردّ على الزنديق اللعين») فيقوم مقام المقدمة لتحقيق الكتاب الملحق بالكتاب الأصلي، وفي بدايته تعريفٌ بالإمام الزيدي الرَّسي (تـ246هـ) وحديثٌ عن مؤلفاته وعن أسلوب كتابه وبُنيته الداخلية، ثم تأتي الفقرة الأهم تحت عنوان (الكتاب وابن المقفّع) لحشد مجموعة من الأدلّة التي احتجّ بها المؤلِّف على براءة ابن المقفّع من الكتاب المنسوب إليه وإثبات نسبته للمقنَّع الخراساني، وتتوزّع بين أدلة داخلية مأخوذة من نصّ الكتاب، وأدلة خارجية أبرزها تنبّه بعض القدامى كابن خلكان (تـ681هـ) إلى وجود خلط قديم بين الرجلين ووجود تداخل بين أفكارهما. لا تقتصر أهميّة وقيمة هذا الكتاب على إزالة الأقنعة والكشف عن الحقائق المختفية خلفها كحقيقة شخصية المقنّع الخراساني وحقيقة أفكاره وملامح حركته المنتحرة، ففصوله الممتعة تكشف للقارئ العربي جانباً مُشرقاً من جوانب التميّز والثراء في تجربة الأستاذ سعيد الغانمي الذي تتجلّى براعته في البحث والتقصّي مع كل دراسةٍ أو كتابٍ جديد يصدر له. غلاف أقنعة المقنع الخراساني
مشاركة :