جدلية العروبة والإسلام

  • 12/12/2015
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

توضح القراءة الموضوعية لتاريخ الأمة العربية أن العلاقة بين العروبة والإسلام تكاد تكون متميزة كيفيا عن علاقة أغلبية الأمم الأخرى بالدين الغالب في أوطانها، بما في ذلك الأمم غير العربية التي يدين غالبيتها بالإسلام. ويعود ذلك لجملة عوامل متفاعلة في مقدمتها دور العرب في الإسلام، إذ إنهم كلفوا بحمل رسالته ونشرها بقوله سبحانه وتعالى (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون )- سورة الزخرف، آية 44 -. وكان منهم الرسول عليه الصلاة والسلام، والصحابة، والتابعون، وقادة الفتح، وأعلام المحدثين والمفسرين والقراء في صدر الإسلام. وبلغتهم نزل القرآن الكريم، وجاء الحديث، وكتبت السيرة النبوية. وكان شعرهم ونثرهم وحكمهم وأمثالهم مراجع يحتكم إليها المفسرون ورواة الحديث، والقراء. فيما تضم جزيرتهم الحرمين الشريفين ومشاعر الحج، ويستقبلها المصلون في كل ساعة من الليل والنهار، وإليها تهفو مشاعر المؤمنين بالدين الحنيف في مشارق الأرض ومغاربها. وبالتالي أضفى الإسلام على العرب وجزيرتهم ولغتهم هالة من القداسة أكسبتهم قوة جذب دينية الطابع عند الكثيرين ممن نطقوا بالشهادتين. كما وفر الإسلام سبل تدعيم مقومات الوجود العربي: اللغة والثقافة والتاريخ. فيما أحدث نقلة نوعية في توجه العرب الوحدوي بإحلاله وحدة الأمة محل الأحلاف القبلية. بينما شدد الفكر والعمل الإسلامي على وحدانية الإمام وعروبته بإجماع الفقهاء وعلى أن يكون قرشي النسب. فيما شكلت الشريعة الإسلامية عامل توحيد قومي، إذ شكلت المرجعية القانونية للمواطنين جميعاً قروناً طويلة. ويتضح النسق الوحدوي بقراءة تاريخ الأمة العربية من زاوية التاريخ المدني والثقافي. ثم إن للإسلام دوره التاريخي في عملية التكوين التاريخي القومي العربي، ليس فقط بكون الفتح العربي الإسلامي عملية تحرير وطني وديني من تسلط فارسي وروماني لعدة قرون، وإنما أيضاً بإقراره مبدأ لا إكراه في الدين، واعترافه بالحقوق المدنية والدينية لأهل الكتاب، وبكون الرؤية الإسلامية للسيد المسيح أقرب إلى ما قال به أريوس ونسطور ودونات والمنوفوزيون، مما جعل الدعوة الإسلامية غير هجينة بالنسبة لقطاع واسع من نصارى المنطقة، ما يسر تفاعلهم الإيجابي مع الفاتحين العرب المسلمين. وبحيث استكملت عملية التفاعل البشري والثقافي التي توالت في المنطقة منذ فجر التاريخ. إذ برزت للوجود مطلع القرن الثالث الهجري الأمة العربية على أساس الانتماء الحضاري وليس الانتساب السلالي. وقد أسهم في بلورة ثقافتها القومية مبدعون من مختلف الأصول والأديان والمذاهب، ما يدل على عمق شعورهم بالانتماء الحضاري للأمة العربية. وبما عرف به العرب منذ الجاهلية بالانفتاح على الآخر، نهل مبدعو صدر الإسلام من تراث شعوب المنطقة السابق للفتح، كما نهلوا من تراث فارس واليونان والهند والرومان، فيما لا يتناقض مع الإسلام والقيم العربية. ولأن التفاعل جرى والعرب في مركز قوة ووطنهم أبرز مراكز الإشعاع الحضاري انتفت عند النخب السياسية والفكرية عقد الانبهار بالآخر أو الانغلاق دونه. وحيث انفسح المجال لكل مبدع بصرف النظر عن نسبه ودينه ومذهبه والبلاد التي جاء منها، اتسمت الثقافة العربية الإسلامية بقدر عال من الاستنارة والانفتاح. بل وتميزت عن ثقافات الأمم الإسلامية الأخرى، على الرغم من مركزية الإسلام في كل منها. ولما كانت شعوب الوطن العربي قد احتفظت بانتمائها القومي ولغتها العربية برغم سقوط السلطة السياسية للنخب عربية الأصول قبل أن ينتهي القرن الثالث الهجري، وتواصل ذلك حتى مطلع القرن العشرين الميلادي. ففي ذلك دلالة قاطعة على أن التكوين القومي العربي الذي أنجز خلال القرنين الأولين للهجرة إنما تم باتساق مع المسيرة التاريخية لشعوب الوطن العربي وجاء نتاجاً طبيعياً لظروفها الموضوعية. الجدير بالتذكير به، والتنبيه إليه، أن التاريخ العربي لم يشهد السلطة الدينية القامعة لحرية الفكر والرأي، فيما كانت المساجد في صدر الإسلام المجالات الرحبة لنقاشات وحوارات المبدعين على قاعدة لا يفسد الخلاف للود قضية. وذلك خلافاً لما شاع في أوروبا خلال القرون الوسطى من تسلط البابوية على الفكر، الأمر الذي أسهم في بروز حركة الإصلاح الديني التي دشنها لوثر، كما في بروز الدعوة العلمانية. وعليه غابت تماماً الدعوة للعلمانية في أدبيات أبرز منظري وقادة الفكر القومي العربي في القرن العشرين، كما وثق ذلك الباحث المعروف سيد ياسين في كتابه نقد الفكر القومي. ويذكر أنه لدى الاحتفال بإنهاء إقامة السد العالي في أسوان بمصر اختلف الرئيس العراقي عبد السلام عارف مع خروتشوف حول الدين، وعندها توجه عبد الناصر للزعيم السوفييتي قائلاً: أنتم ألقيتم أخطاء رجال الدين على الدين. أما نحن فقد كان المسجد منطلقنا لمقاومة الغزاة. وأنا نفسي ذهبت إلى الأزهر عندما بدأ العدوان الثلاثي، ومن على منبره أعلنت سنحارب ولن نستسلم، داعياً جماهير مصر والأمة العربية لمقاومة الغزاة. وقد عبر الرئيس خالد الذكر حينها عما عرفت به الأمة العربية منذ تصديها لغزو الفرنجة، المعروف تجاوزاً بالحروب الصليبية قبل نحو ألف عام باللجوء إلى الإسلام، والاستقواء به في التصدي لقوى الاستعمار، وإرساليات التبشير الأوروبية، بكفاءة ملحوظة. كما عرفت بإبراز ردة الفعل الحضارية الثقافية على نحو متميز، وتطابقت وجدانياً مع مصير الإسلام، بما يدل على أنها اعتبرت نفسها الوريث الأساسي للإسلام، بدليل غلبة قول الفقهاء، إذا ذُل العرب ذُل الإسلام وإذا عُزً العرب عُزً الإسلام ودليلنا المعاصر أنه في زمن المد القومي لم تشهد أوروبا تطاولاً على الإسلام ورسوله الكريم ورسالته بحجة حرية الرأي كما جرى بعد انحسار المد القومي العربي وتصاعد ما سمي الصحوة الإسلامية. وعمت الساحة الحركات إسلاموية الخطاب والشعارات. وفي ضوء ما سبق نقول إن كل موقف صدر عن مفكر أو منظمة سياسية عربية مضاد للإسلام، أو في تضاد مع العروبة، أياً كان صاحبه، يقود إلى نتائج كارثية على الأمة العربية، كما على الإسلام، فضلاً عمن يصدر عنه، بصرف النظر عن دوافعه وغاياته، وشواهد التاريخ الحديث والمعاصر كثيرة. admin@afcocpa.ae

مشاركة :