خرجت الإمبراطورية البريطانية من الحرب العالمية الثانية منهكة، بينما برزت أميركا دولةً عظمى جديدة على الساحة الدولية. وعندما أَمّم رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدّق نفط إيران سنة 1951، لم تستطع بريطانيا التي كانت خسرت الهند وضعُفت سيطرتها على المستعمرات الأخرى، أن تثنيه عن ذلك حتى بعد أن حرّكت أساطيلها، فتدخّلت أميركا ورتّبت انقلاباً عليه وأزاحته وأعادت الأمور إلى نصابها. منذ ذلك الحين تسلّمت أميركا دور حماية نفط الخليج ووضعت خطاً أحمر لأي من تسوّل له نفسه التلاعب فيه. إضافة إلى ذلك تسلّمت أميركا، حامية النفط، قيادة الغرب السياسية في منطقة الشرق الأوسط، فهي التي تقود والدول الغربية تتبع. ولم تتوان أميركا عن لعب هذا الدور حتى في أحلك أيامها، خصوصاً بعد الحروب الطويلة التي خاضتها في أنحاء متفرقة من العالم والتي غالباً ما جعلت الشعب الأميركي يميل إلى الانعزالية (Isolationism)، فبعد الحرب العالمية الثانية مثلاً جاء الرئيس هاري ترومان ووزير خارجيته الجنرال جورج مارشال، اللذان تغلّبا على رغبة الأميركي بالانعزال عن العالم، وأعاداه إلى الساحة الدولية من خلال خطة مارشال لإعادة إعمار أوروبا الغربية وإنقاذها من الشيوعية، مترافقة بحرب باردة ضد الاتحاد السوفياتي. وبعد حرب فيتنام وأزمة الرهائن الأميركيين في إيران، عاد الأميركي إلى انعزاله، فجاء الرئيس رونالد ريغان صاحب عقيدة «الاحتواء»، التي كانت تهدف إلى عرقلة التوسُّع الشيوعي حيثما وجد، والتي نجحت إلى حد كبير بالوصول إلى أهدافها، في أنغولا ضد التدخل العسكري للاتحاد السوفياتي وكوبا، وفي كمبوديا ضد تدخل فيتنام، وطبعاً في أفغانستان ضد التدخُّل السوفياتي، الذي يعتقد كثيرون أن انسحاب جيوشه مكسورة من هناك كان أحد الأسباب الرئيسية في تفكيك الاتحاد بعد سنتين من ذلك. أعطي هذين المثلين، وهناك أمثال أخرى مشابهة في التاريخ الأميركي، لأصلَ إلى كيفية تعامل الرئيس باراك أوباما مع العراق وسورية، هو الذي وصل إلى سدَّة الرئاسة بعد سبع سنوات من الحروب الفاشلة وغير المنتهية في أفغانستان والعراق، وفي جو شعبي يطالب بالانعزال من جديد. ولكن، على عكس ترومان وريغان، جاء أوباما إلى الحكم مسانداً رغبة الأميركي بالانعزال، ومؤمناً بضرورة انسحاب أميركا ليس فقط من الحروب التي كانت فيها، بل من قيادة العالم. عقيدة أوباما في السياسة الخارجية ألخّصها بموقفين معلنين: الموقف الأول عبّر عنه أمام الإعلاميين الذين رافقوه في رحلة إلى شرق آسيا في ربيع السنة الماضية، عندما قال إن سياسته الخارجية «تتمحور حول مفهوم واحد: لا ترتكب حماقات». وفي مؤتمر صحافي لاحِق شَرَحَ مُجدداً ما هي «عقيدته» في السياسة نفسها، قائلاً: «قد لا تكون [عقيدتي] مثيرة... ولكنها تتفادى الأخطاء». ثم اقتبس من لعبة البايسبول الشعبية الأميركية، حيث لا يُسجِّل هدفاً إلا بعد الوصول إلى القاعدة الرابعة، قائلاً: «تصل أحياناً إلى القاعدة الأولى، وأحياناً إلى الثانية، وبين الحين والحين تسجِّل هدفاً». وعندما سُئِلت هيلاري كلينتون عن هذه التصريحات أجابت: «الدول العظمى تتطلّب مبادئ تنظيمية، و «لا تفعل حماقات» ليس مبدأ تنظيمياً». الموقف الثاني جاء على لسان أحد كبار معاونيه، وهو الأشهر في هذا المجال: «القيادة من الخلف». أميركا كما أرادها أوباما لا تقود من الأمام، غيرها يفعل ذلك وهي تسانده، هكذا فعلت بالنسبة إلى ليبيا، حيث ساندت الناتو من خلال ضربة استباقية بواسطة صواريخ أُطلقت من البحر على دفاعات ليبيا الجوية، ثم مساندة لوجيستية من بُعد، وهكذا فعلت أيضاً في مالي بمساندتها اللوجستية للجيش الفرنسي على الأرض. ولخّص أحد الكتّاب الأميركيين سياسة أوباما الخارجية قبل بدء الغارات الأميركية على سورية بأيام كالآتي: «إنها سياسة تردُّد وتأجيل وتفادي أخذ القرارات، تتّسم بمناشدات حزينة لما يسمّى المجتمع الدولي ليفعل ما لا يستطيع أحد أن يفعله سوى الولايات المتحدة». ويضيف أحد المحلّلين الرئيسيين في «نيويورك تايمز»: «أنا لا أتهم الرئيس أوباما بالجبن، لكنّي أتهمه بأنه يبالغ بالحذر، ولا يعلم ماذا يفعل». في آخر كانون الأول (ديسمبر) 2011، وبينما كانت الفوضى تعمّ سورية، إذ كانت ثورتها السلمية قد تحولت ثورة مسلحة قبل حوالى ستة أشهر، سحب أوباما الجيش الأميركي من العراق تاركاً وراءه ما كان يسمى تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق» من دون أن يتم القضاء عليه كلياً، إذ كان بقي منه حوالى 700 مقاتل وفق تقديرات الاستخبارات المركزية الأميركية. الفوضى في سورية أعادت الحياة إلى التنظيم، الذي سرعان ما أعاد ترتيب صفوفه بقيادة أبو بكر البغدادي. حاول الكثيرون من كبار مستشاري الرئيس أوباما إقناعه بالتدخل في سورية باكراً ومساندة «الجيش الحر» لإنهاء النزاع قبل تغلغل «القاعدة» و «الدولة الإسلامية» فيها، لكنه كان يسخر من الفكرة، إذ قال لأحد الصحافيين: «عندما يكون هناك جيش محترف... يحارب فلاحاً ونجاراً ومهندساً بدأوا كمتظاهرين وفجأة وجدوا أنفسهم في وسط حرب أهلية، فإن الفكرة القائلة إن باستطاعتنا تغيير المعادلة على الأرض من دون أن نورط جيشنا ليست أبداً صحيحة». ووفق مذكراتهم، فإن وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، ووزير الدفاع روبرت غايتس، وليون بانيتا رئيس وكالة الاستخبارات المركزية ولاحقاً وزير الدفاع، ألحّوا عليه بالتدخُّل، ولكن من دون جدوى. وهناك تقرير حضّرته «وكالة استخبارات الدفاع الأميركية» (Defense Intelligence Agency U.S) في آب (أغسطس) 2012، يحذّر من خطر توسُّع المجموعات الإسلامية «وإمكان إعلانها دولة إسلامية من خلال التحالف مع قوى إرهابية أخرى في العراق وسورية»، لكن أوباما لم يعره أي اهتمام. وبعد أقل من سبعة أشهر أعلن البغدادي «الدولة الإسلامية في العراق والشام» في نيسان (أبريل) 2013، ومن ثم الخلافة في حزيران (يونيو) 2014. على رغم ذلك، ظل أوباما مصرّاً على موقفه، حتى اليوم الذي سبق ذبح الصحافي الأميركي جايمس فولي في 19 آب من السنة الماضية. في ذلك اليوم (أي 18 آب) صرّح أوباما في مؤتمر صحافي أن محاربة تنظيم «داعش» ليست مسؤولية أميركا، مضيفاً: «نحن لسنا الجيش العراقي ولسنا حتى الطيران الحربي العراقي. أنا القائد الأعلى للقوات المسلحة الأميركية، وعلى العراق في النهاية أن يؤمّن سلامته بنفسه». لكن الفيديو الوحشي الذي وزعه «تنظيم الدولة» في اليوم التالي قلب بسرعة الرأي العام الأميركي لمصلحة التدخُّل، ما دفع أوباما إلى تغيير موقفه، فبدلاً من أوباما المنكفئ برز على الساحة أوباما المحارب المتردِّد. بدأ الهجوم الأميركي في 23 أيلول (سبتمبر) 2014. هدفُ الضربات الذي أعلنه أوباما شخصياً تألف من أربع نقاط: - دعم القوى التي تحارب على الأرض ومتابعة البحث عن حل سياسي للأزمة. - الحؤول دون تمكُّن التنظيم من القيام بهجمات وتجفيف مصادر تمويله. - مساعدة المدنيين الأبرياء الذين هجّرهم تنظيم «داعش». - وبالنتيجة إنهاك التنظيم ومن ثم القضاء عليه. ماذا تحقق من هذه الخطة خلال السنة التي تلت، أي حتى أيلول الماضي؟ حاولت أميركا تدريب قوة على الأرض، تم اختيار300 عنصر من الذين تقدّموا للتطوُّع، طُلب منهم توقيع تعهُّد بعدم محاربة النظام بل محاربة «داعش» فقط. وقّع منهم أربعون تم تدريبهم وانسحب المتبقون. أُرسلوا إلى سورية فقُتِل بعضهم وخُطف آخرون مع أسلحتهم من قبل «جبهة النصرة». بقي منهم وفق «واشنطن بوست» «أربعة أو خمسة» فقط يحاربون «داعش». أوقف البرنامج في أيلول الماضي بعد أن كلّف أكثر من 50 مليون دولار، أي أكثر من 10 ملايين دولار لتدريب وتجهيز كل مقاتل. بالنسبة إلى تجفيف مصادر تمويل «داعش»، فقد أصبح التنظيم مكتفياً ذاتياً، بشكل خاص من خلال الضرائب والرسوم، ومن بيع النفط من الآبار التي يسيطر عليها في سورية والعراق إلى النظام السوري وإلى الخارج. على رغم الغارات الخجولة من طيران التحالف ومؤخراً الطيران الروسي، من غير المنتظر أن يتم تدمير الآبار أو معظمها أو حتى تدمير وسائل النقل، لأن ذلك سيشكل من جهة كارثة اقتصادية للعراق وسورية بعد «داعش»، ومن جهة أخرى، سيجفّف حالياً المصدر الرئيسي للنفط ومشتقاته للنظام السوري، ما لا يريده أي من الفرقاء الخارجيين، لا التحالف الأميركي ولا التحالف الروسي- الإيراني. المهم في الأمر هو أن مدخول التنظيم حالياً يبلغ ما يقارب بليون دولار سنوياً وفق تقرير نُشر في صحيفة «نيويورك تايمز». بالنسبة إلى مساعدة المدنيين الأبرياء، اقتصرت المساعدة الأميركية بشكل رئيسي على إلقاء المعونات الغذائية للإيزيديين من الجو في منطقة سنجار، لكن الكثيرين منهم قُتلوا أو أُخذوا أسرى أو رقيقاً للبيع. أما بالنسبة إلى إنهاك التنظيم عسكرياً ومن ثم القضاء عليه، فالتقديرات الأخيرة تدل أيضاً على عكس ذلك، فتنظيم «داعش» أصبح، وفق قول الجنرال ديمبسي رئيس الأركان الأميركي الشهر الماضي، يسيطر على 250 ألف كيلومتر مربع من سورية والعراق، أي على منطقة توازي مساحتها مساحة بريطانيا العظمى، ويقطنها بين 10 و12 مليون نسمة. ووفق أكثر التقديرات صدقية، فإن لدى التنظيم ما يقارب المئة ألف مقاتل إضافة إلى أعداد كبيرة من رجال الأمن والموظفين الرسميين. ولعل الأمر الأكثر دلالة على توسُّع «داعش» خلال السنة الماضية هو الزيادة الكبيرة في أعداد المجنّدين الأجانب لديه، فبينما كان عدد المقاتلين الأجانب لدى «داعش» حوالى 18 ألف عنصر من 90 دولة آخر سنة 2014، أصبح العدد في تشرين الثاني (نوفمبر) من هذه السنة أكثر من 30 ألف عنصر من 100 دولة، أي بزيادة الثلثين في عديده، وذلك وفق وكالة الاستخبارات الأميركية. فشل الخطة الأميركية وازدياد عنف المعارك على الأرض ومن الجو، ترافقا مع تدفق اللاجئين إلى أوروبا بأعداد كبيرة، ما خلق جواً من القلق في تلك البلدان، ممزوجاً بجرعة لا بأس بها من الإسلاموفوبيا. غربٌ متردّد لأن قائده التقليدي يصر على القيادة من الخلف، ومرتعد من ارتداد الأزمة عليه إرهاباً ولاجئين، ما فتح الباب لتدخُّل روسيا العسكري في آخر أيلول الماضي، وأضاف عقدة جديدة في مجرى الأمور المعقدة أصلاً. كما أن تنظيم «داعش»، تحت هذه الضربات المكثّفة والخسارات، ولو محدودة على الأرض، غيّر استراتيجيته بشكل خطير، فبينما لم تكن له حتى الماضي القريب، أنشطة إرهابية في البلدان الغربية وروسيا، بدأ بالانتقام من الدول المشاركة في الهجومات الجوية عليه من خلال القيام بأعمال إرهابية وحشية فيها، ما يُنذر بإمكانية تحوّله إلى هذا النمط من التحرُّك كلما تم التغلب عليه عسكرياً في المستقبل. نشهد اليوم حرباً متعددة الأطراف، كل طرف أو أكثر له استراتيجيته وأهدافه. أميركا وتركيا وغالبية الدول العربية الإقليمية، على سبيل المثال، تصر على أن لا إمكان لقهر تنظيم «داعش» سوى برحيل الأسد ومعاونيه. إيران تريد بقاء الأسد إلى الأبد وحليفتها روسيا تؤيدها بالتركيز على ضرب القوى التي تبغي إزاحته بدلاً من ضرب «داعش»، علماً أن لا اتفاق بين المغيرين على ما هي التشكيلات المقاتلة التي تُعتبر إرهابية. وكل الأفرقاء الخارجيين يقولون إن من غير الممكن التغلب على «داعش» من دون وجود قوة ضاربة كبيرة على الأرض، ولا أحد يريد أن يضع قواته على الأرض. أما الخلاف بينهم حول توزيع الحصص في سورية والعراق بعد انتهاء الأزمة، فحدّث ولا حرج. أين نحن من النهاية؟ الجواب على هذا السؤال يقع خارج نطاق هذه المقالة، ولذا أكتفي بما قال تشرتشل بعد معركة العلمين خلال الحرب العالمية الثانية عندما سُئِل السؤال نفسه. قال: «نحن لم نصل إلى النهاية ولا حتى إلى بداية النهاية. في أحسن الأحوال لربما نكون قد وصلنا إلى نهاية البداية». ودامت الحرب بعد ذلك ثلاث سنوات. * سفير لبنان في واشنطن سابقاً، والنص مقاطع من محاضرته في المؤتمر السنوي لرابطة أصدقاء كمال جنبلاط في بيروت - 3/12/2015
مشاركة :