قبل أكثر من عشر سنوات أرسل لي أحد الأخوة صورة لجدار منزله الخارجي في أحد المجمعات السكنية التي أُنشئت قبل أكثر من عقد من الزمن في جنوب البحرين في منطقة برية وصحراوية، وكانت تعد في ذلك الوقت من المناطق النائية والبعيدة عن الأنشطة البشرية، وبخاصة الأنشطة العمرانية السكنية. فهذه الصورة كانت تُريني مشهداً غريباً بالنسبة إلينا في البحرين، وتقدم منظراً نادراً لا يراه الكثير من الناس. فهذه الصورة حتى بالنسبة إلي كانت تمثل منظراً غير مألوف وغير طبيعي في بلادنا، وفي الوهلة الأولى كنتُ أظن أنها تبين بقعاً سوداء قاتمة اللون على جدار المنزل، ولكن بعد التدقيق في الصورة، والنظر إليها بتفحص أكثر وعن قرب، تأكد لي أنها مجموعة لا تقل عن ثلاثين من الخفافيش الداكنة اللون التي التصقت بجدار البيت، وعلَّقت نفسها على سطحه. فهذه الظاهرة الجديدة علينا، والتي وصفتُها لكم قد يعتبرها البعض بسيطة وسطحية في ظاهرها، ولا تستحق أن نتناولها ونتحدث عنها، ولكن عند دراسة مثل هذه الظاهرة على المستوى الدولي والولوج في تفاصيلها وأبعادها المختلفة، وهي وجود الخفافيش في بيئات سكنية مأهولة بالناس، وجدتُها أنها هي في الواقع جزء من ظاهرة عالمية يمكن مشاهدتها في معظم دول العالم، ولكن تختلف في صورها ومشاهدها من بلدٍ إلى آخر، بل وإن انكشاف مثل هذه الظاهرة ومثيلاتها قد سببت للبشرية في السابق وحالياً كُربات بيئية وصحية عقيمة، منها على سبيل المثال وباء كورونا الذي نزل على البشرية جمعاء، والتهم في أشهر قليلة جداً بشكلٍ مباشر أو غير مباشر أرواح قرابة 14.9 مليون إنسان في الفترة من الأول من يناير 2020 إلى 31 ديسمبر 2021، حسب تقرير منظمة الصحة العالمية المنشور في السادس من مايو 2022. فكما يعلم الجميع الآن بأن هناك شبه إجماع عند العلماء بأن وباء كورونا الذي نشهده اليوم في كل شبرٍ من كوكبنا قد كان بسبب انتقال فيروس كورونا من الخفاش إلى الإنسان، إما بشكلٍ مباشر عن طريق تعرض الإنسان للخفاش الذي يُعد جسمه مخزناً هائلاً لأنواع كثيرة من الفيروسات التي انتقلت إلى الإنسان، وإما بطريقة غير مباشرة من خلال حيوان آخر وسيط يحمل هذه الفيروسات المرضية القاتلة. ولكن كيف يتعرض الإنسان للخفاش الذي يعيش في بيئات هادئة ونائية وبعيدة عن تحركات البشر وأنشطته التنموية، مثل الكهوف المظلمة، أو على الأشجار العالية، أو على الأسطح التي لا يقترب منها البشر عادة؟ أكدت الأبحاث الميدانية أن هناك عدة طرق يتعرض فيها الخفاش للبشر، ومنها المشهد الذي وصفته لكم في مطلع المقال. ففي الكثير من الحالات يتوغل الإنسان نفسه على بيئة الخفافيش البعيدة التي تعيش فيها آمنة مطمئنة لا تفاعل بينها وبين بني البشر، وتفصل بينهما مسافات طويلة نسبياً، فيغزو الإنسان هذه البيئات الفطرية النائية ويستبيح حرماتها، ويُقرِّب المسافات بينها، فيُحدث تغيراً جذرياً في أنماط استخدام الأرض في تلك البيئات، ويُشكل خللاً في النظام البيئي العام، مثل بناء منشآت تنموية مختلفة منها صناعية، أو ترفيهية، أو مجمعات سكنية، أو بناء الطرق والجسور. وهنا قد يقع الخلل وتفقد البيئة توازنها الدقيق والهش، فيحدث نوع من التفاعل غير المرغوب فيه والمضر بين بني البشر والخفافيش، ما يساعد على انتقال الفيروسات التي تحملها هذه الخفافيش إلى الإنسان مباشرة. كما يمكن للخفافيش أن تتفاعل بطريقةٍ أو بأخرى مع الحيوانات المستأنسة مثل القطط، والكلاب، وغيرهما التي تعيش مع الإنسان، فتحمل الفيروسات من هذه الخفافيش وتنقلها إلى الإنسان، فيصاب بأمراض وأوبئة حسب نوعية الفيروس وخطورته وقوته في نقل العدوى بين بني البشر. كذلك في بعض الحالات يذهب العلماء والباحثون عمداً إلى بيئات الخفافيش بهدف إجراء دراسات ميدانية وفي مواقعها الطبيعية، أو أخذ عينات منها للتعرف عن نوعية الفيروسات التي تحملها هذه الخفافيش والأسقام التي من المحتمل أن تصيب الإنسان عند انتقال هذه الفيروسات إلى جسمه، وقد تحدث أخطاء وهفوات ميدانية عند إجراء البحوث، فيتعرض العالم لعضة الخفافيش، فتنتقل إليه الفيروسات، ثم يُعدي الآخرين بها. ومن ناحية أخرى فإن هذه الخفافيش، والحيوانات والطيور الأخرى بشكلٍ عام، قد تهاجر، أو تنتقل إلى بيئاتٍ ومناطق جديدة عند وقوع التغير المناخي وارتفاع حرارة الأرض، كما هو عليه الحال الآن، ما يضطرها جميعاً إلى البحث عن بيئات أخرى أكثر برودة، وأشد ملاءمة لحياتها والظروف المناخية والغذائية والمعيشية فيها أفضل من المناطق السابقة. وفي هذه الحالة أيضاً تحدث هناك تفاعلات غير فطرية وغير طبيعية من عدة صور وطرق بين الأنواع الحيوانية المختلفة في البيئات الجديدة وبني البشر، ما يسهل انتقال الفيروسات، والبكتيريا، والجراثيم المرضية الأخرى بين الحيوانات من جهة، وبين الحيوانات والإنسان من جهة أخرى ويُطلق عليها (zoonotic spillover)، مما يزيد من الأوبئة والعلل بين بني البشر، وتنكشف أمراض جديدة لم يعرفها الإنسان من قبل. وهناك عدة دراسات بدأت تسبر غور هذه القضية، منها الدراستان المنشورتان في مجلة «الطبيعة»، في 28 أبريل 2022، الأولى تحت عنوان: «التغير المناخي يزيد من مخاطر انتقال الفيروسات بين الأنواع الحية»، والثانية عنوانها: «التغير المناخي سيفاقم من تفاعل الحيوانات مع بعض وسيزيد من احتمال نقل الفيروسات بينها». وقد توصلت هاتان الدراستان ودراسات أخرى إلى عدة استنتاجات مهمة وخطيرة، منها أن تغيير أنماط استخدام الأرض، وبخاصة إزالة الغابات الفطرية الاستوائية الكثيفة وتحويلها إلى مزارع للمحاصيل، أو الرعي، أو بناء الطرق يزيد من الاتصال والتفاعل بين الحيوانات من جهة، وهذه الحيوانات وبني البشر من جهة أخرى، ما يرفع من احتمال انتقال الفيروسات إلى هذه الحيوانات، ثم إلى الإنسان، ونزول أوبئة جديدة. كما أن الدراسات أشارت إلى وجود علاقة بين التغير المناخي وتداعياته المتمثلة في سخونة الأرض، وتغير أنماط سقوط الأمطار، واحتمال تعرض الإنسان للأوبئة، كوباء كورونا، فارتفاع حرارة الأرض وتغير سقوط الأمطار يضطر الحيوانات والطيور إلى الهجرة والاستقرار في مناطق أخرى قد تكون قريبة من المجتمعات البشرية، ما يرفع من احتمال تعرضها وتفاعلها، وبخاصة التي تحمل الأمراض المعدية، مع الإنسان ونقل الفيروسات والبكتيريا والطفيليات إليه، ثم إشعال فتيل أزمة صحية جديدة لن تنطفئ. ولذلك يجب على الإنسان إجراء حسابٍ دقيق وشامل لكل أعماله التنموية قبل الشروع فيها، كتغيير استخدامات الأرض، كما أن عليه سرعة أخذ الإجراءات اللازمة لمكافحة التغير المناخي وسخونة الأرض حتى لا نُعرض أنفسنا لأوبئة جديدة لا طاقة لنا بها، ولا علم لنا ولا خبرة في كيفية علاجها. bncftpw@batelco.com.bh
مشاركة :