قررت كل من فنلندا والسويد التخلي عن سياسة الحياد الطويلة الأمد حيال النزاعات الدولية والانضمام، وهذا القرار الاستراتيجي في السياسة الخارجية للبلدين يشكل نقطة تحول تاريخية وأثارت تساؤلات حول أهمية انضمام الدولتين الاسكندنافيتين إلى حلف شمال الأطلسي. لقد أثار الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا، الذي بدأ في 24 فبراير الماضي، قلق البلدين، خاصة للفنلنديين الذين يشتركون في حدود بطول 1300 كيلومتر مع روسيا. كانت فكرة الانضمام إلى حلف الناتو بين الفنلنديين لا تتجاوز 20 إلى 30 في المائة على مدار العشرين عاما الماضية، وعارض الحزب الاشتراكي الديمقراطي في فنلندا المعارض تاريخيا انضمام البلد إلى الناتو، ولكن الآن، وفقا لآخر استطلاعات الرأي، فقد ارتفعت هذه النسبة إلى أكثر من 70 بالمائة. يذكر أن فنلندا مثلها مثل النرويج وأجزاء من الأراضي الروسية والألمانية وجميع دول البلطيق، كانت جزءا من الإمبراطورية السويدية لعدة قرون، ولكن بعد الحرب السويدية الروسية في 1808 و1809، والمعروفة باسم "الحرب الفنلندية"، تنازلت السويد عن الأراضي الشرقية إلى الإمبراطورية الروسية، وكانت الحرب الفنلندية الأحدث في سلسلة الحروب بين الروس والسويديين. لكن فنلندا أعلنت استقلالها عن روسيا بعد الثورة البلشفية عام 1917، وفي عام 1939، غزا الاتحاد السوفيتي فنلندا، لكنها قاومت القوات السوفيتية بشجاعة خلال الأشهر الثلاثة من الحرب المعروفة باسم "حرب الشتاء". واستؤنفت الحرب بين البلدين في عام 1941، واضطرت فنلندا إلى وقف إطلاق النار بعد ثلاث سنوات من الحرب، وأرغمت على توقيع معاهدة "صداقة" مع موسكو في عام 1948، واتفق القادة الفنلنديون على تجنب التعاون العسكري مع الغرب، وفي الواقع كانت الاتفاقية جزءا من سياسة الحياد القسري التي يشار إليها تاريخيا باسم "الفنلدة" في إشارة إلى قرار دولة صغيرة عدم تحدي جارة أكثر قوة في السياسة الخارجية، مع الحفاظ على السيادة الوطنية. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، تحررت فنلندا من الضغط النفسي المنبعث من موسكو، وانضمت إلى الاتحاد الأوروبي في عام 1995 وأصبحت شريكا وليس عضوا في الناتو في إطار خطة الشراكة من أجل السلام، دون أن تتخلى عن سياسة الحياد. لماذا تنوي السويد التخلي عن سياسة الحياد؟ منذ أن انهارت الإمبراطورية السويدية قبل قرنين من الزمان، ونتيجة لحروب نابليون بونابرت في القرن التاسع عشر، تبنت ستوكهولم سياسة الحياد، واستمرت بالحياد خاصة خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية. وعلى الرغم من أن السويد شاركت في مهام عسكرية في أفغانستان أو مؤخرا في مالي، إلا أنها لم تخض حربا منذ عام 1814، بعد الحرب مع شقيقتها النرويج. على الرغم من عدم عضوية السويد في الناتو، إلا أنها، مثل جارتها فنلندا، حافظت على علاقات وثيقة مع الحلف، لدرجة أن الناتو يعتبر البلدين الآن "أقرب الدول غير الأعضاء"، وشارك البلدان في مهام الناتو في البلقان وأفغانستان والعراق على مدى العقدين الماضيين، وكذلك في العديد من التدريبات العسكرية المشتركة. وكان الرأي العام السويدي يعارض خلال العقود الماضية الانضمام إلى الناتو، ولكن أعاد المواطنون السويديون النظر في موقفهم من الحلف إثر الغزو الروسي لأوكرانيا، والآن، وفقا لاستطلاعات الرأي، يرغب نصف السويديين على الأقل في الانضمام إلى التحالف العسكري لحلف الناتو. بالإضافة إلى ذلك، إذا انضمت فنلندا إلى الناتو، يصبح جميع جيران السويد أعضاء في الحلف، خاصة الاسكانديويين، وتبقى السويد وحيدة بمفردها في هذا الوسط، حيث النرويج والدنمارك عضوان في الحلف منذ تأسيس الناتو في عام 1949، وانضمت بولندا عام 1999، وإستونيا وليتوانيا ولاتفيا في 2004، وجميعها تجاور السويد عبر مشاطأة بحر البلطيق. القوة العسكرية لكل من فنلندا والسويد؟ فيما يتعلق بالأسلحة، تمتلك فنلندا مخزونا ضخما من الأسلحة المتطورة، والسويد تعد إحدى أهم البلدان لصنع وتصدير الأسلحة المتطورة من المقاتلات المتقدمة إلى السفن الحربية والأسلحة المضادة للدبابات الحديثة والمضادات الجوية. وخلال الحرب الباردة، خصصت كل من السويد وفنلندا، اللتان لم تلتحقا بأي حلف عسكري، ميزانيات تقدر بـ4 إلى 5 في المائة من ناتجهما المحلي الإجمالي، ومع اختفاء التهديد السوفيتي، خفض البلدان ميزانياتهما العسكرية، لكن فنلندا حافظت على سياستها الخاصة بالخدمة العسكرية وقوات الاحتياط، خلافا للسويد. يمكن القول إن فنلندا، التي يبلغ عدد سكانها الآن 5.5 مليون نسمة، وضعها من ناحية القوة البشرية المستعدة للانضمام إلى جبهات الحرب المحتملة أفضل من السويد البالغ عدد سكانها 10 ملايين نسمة، حيث لدى هلسنكي جيش قوامه 280.000 جندي مدرب على آخر الأسلحة ومستعد لخوض الحرب في وقت قياسي، بالإضافة إلى 600.000 جندي احتياطي، وهذا الحجم من القوة البشرية العسكرية مقارنة مع عدد سكان البلد يشكل استثناء بين كافة دول الاتحاد الأوروبي. أما السويد التي أوقفت توسيع القوة العسكرية منذ التسعينيات، فقد اضطرت إلى إعادة النظر في سياستها العسكرية منذ 2014 عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم بالقوة إلى أراضيها، وفرضت من جديد التجنيد الإجباري، الذي سبق وتم إلغاؤه في عام 2010، ورغم ذلك فإن السويد لديها الآن 50.000 جندي نصفهم احتياط. بالمقابل تتميز السويد في الصناعات العسكرية المحلية التي يصنف بعضها من بين الأفضل في العالم، من قبيل مقاتلة "جاز غريبن" من صناعة شركة "ساب"، وأول فرقاطة شبحية "فيبسي"، والغواصة "سودرمنلاند"، والصاروخ المضاد للدروع "AT4" الذي حقق نجاحا هائلا في المبيعات ويستخدم في جيوش فرنسا والولايات المتحدة واليونان. أما على الصعيد النووي ورغم سمعة السويد على المستوى العالمي كدولة مسالمة إلا أنها فكرت في إنتاج الأسلحة النووية في أعقاب الحرب العالمية الثانية لحماية نفسها من هجمات الاتحاد السوفيتي العدوانية، وخلال الفترة 1945–1972 أدارت الحكومة السويدية برنامج أسلحة نووية في الخفاء تحت ستار إجراء أبحاث عن الدفاع المدني في معهد أبحاث الدفاع القومي السويدي، وتفيد بعض التقارير بأن السويد بإمكانها إنتاج السلاح النووي في وقت قياسي، لأنها تمتلك الأدوات والإمكانيات والتجارب العملية اللازمة. عملية الانضمام إلى الناتو؟ إن عملية الانضمام إلى الناتو هي اختبار حقيقي للدولة المرشحة لعضوية هذا التحالف العسكري الأقوى والأوسع في العالم، وفي هذا الاختبار يجب على الدولة المرشحة إقناع كل أعضاء الناتو الثلاثين بالقبول بعضويتها وقدرتها على الوفاء بالتزاماتها داخل الناتو. وفي هذا الخضم أعربت تركيا عن شكوكها بشأن الموافقة على عضوية فنلندا والسويد، لكن العديد من أعضاء الناتو الأقوياء، وكذلك أمينه العام، أعربوا عن أملهم وثقتهم في التوصل إلى توافق في الآراء بشأن هذه القضية. وينطبق قانون "الواحد للجميع والجميع للواحد" من الفقرة الخامسة في معاهدة الناتو (التضامن في حالة العدوان) على الدولة التي تتقدم بطلب للحصول على عضوية الناتو فقط عندما يتم التصديق على بروتوكول انضمام الدولة الجديدة من قبل جميع الأعضاء بالإجماع. ووفقا لهلسنكي، يعتقد الناتو أن عملية انضمام فنلندا إلى الحلف قد تستغرق من أربعة إلى 12 شهرا. وإذا انضمت فنلندا إلى الناتو، فسوف تتضاعف حدود الناتو مع روسيا فجأة، لذا هذا الانضمام يشكل فرصة للناتو وتحديا لروسيا، لذا فقد أعلنت روسيا قطع صادراتها من الكهرباء إلى فنلندا، بحجة عدم سداد فنلندا للمتأخرات، ومع ذلك، نظرا للصعاب التي تواجهها القوات الروسية في أوكرانيا، لا يبدو أن الكرملين يعتزم خوض حرب أخرى مع جيرانه الآخرين في المستقبل القريب. أما انضمام السويد كدولة مصنعة لأسلحة متطورة وتتمتع بقدرات علمية فائقة في هذا المجال تشكل إضافة نوعية للحلف. مع انتهاء الحرب الباردة، فقد حل حلف وارسو، فلسفته الوجودية نتيجة لحرمان الحلف من عدوه التقليدي وتسبب ذلك في انقسام بين أعضائه في السنوات الأخيرة، ولكن موسكو وبهجومها على أوكرانيا ضخت الدماء في عروق الحلف ووحدت أطرافه المتنافسة.
مشاركة :