لم تطل تداعيات الحصار الروسي لمدينة ماريوبول الاستراتيجية والساحلية في أوكرانيا البنية التحتية لهذه المدينة فحسب بل جعلت اليأس يدب في نفوس الأوكرانيين هناك، خاصة بعد استسلام آخر المقاومين. وتبدو هياكل المباني في المدينة متفحّمة تحت سماء ملبّدة بالغيوم وطقس ممطر، وبينما يستسلم آخر المقاومين الأوكرانيين أمام الروس يبكي مارة مستقبلهم الضائع. وخلّفت ثلاثة أشهر من المعارك مشهدًا مروّعًا في عدد كبير من الأحياء ودفعت مئات الآلاف من السكان إلى الفرار وأسفرت عن عدد مجهول من القتلى لكنّه على الأرجح هائل. وأصبحت الشوارع خاضعة لسيطرة العسكريين الروس وحلفائهم الانفصاليين الذين احتلّوها على حساب تدمير مدينة ساحلية كانت تضم أكثر من نصف مليون نسمة قبل بدء الحرب. ◙ السلطات الموالية للروس وعدت بجعل ماريوبول منتجعًا بحريّا، لكن يصعب تخيّل هذا المشروع وسط أنقاض المباني المدمرة ◙ السلطات الموالية للروس وعدت بجعل ماريوبول منتجعًا بحريّا، لكن يصعب تخيّل هذا المشروع وسط أنقاض المباني المدمرة ولم يعد دوي المدافع المتواصل مسموعًا كما كان في الأسابيع السابقة في المدينة، لأن في مجمّع آزوفستال لصناعة الصلب يستسلم الجنود الأوكرانيون. إلا أن الجيش الروسي لم يسمح للصحافيين بالاقتراب من المصنع الضخم الذي أصبح رمزًا للمقاومة الأوكرانية الشرسة. ووعدت السلطات الموالية للروس بجعل ماريوبول منتجعًا بحريّا. لكن يصعب تخيّل هذا المشروع وسط تشابك الألواح المعدنية المتساقطة والحطام وأنقاض المباني التي دمّرتها الصواريخ والقذائف. وإثر انتهاء المعارك صار السكان يخرجون بحثًا عن أطعمة. ويعبّر الأشخاص الذين قبِلوا التحدث عن يأسهم حيال هذه المدينة التي تقول موسكو إنها “حرّرتها” من نير النازيين الجدد. وتمشي أنجيلا كوبيتسا -التي يبدو لون شعرها المصبوغ باهتًا- بسرعة أمام دورية عسكرية. ثمّ تردّ على الأسئلة بالروسية، وبلهجةٍ يتميّز بها سكان منطقة دونيتسك الأوكرانية التي تعتبرها روسيا جمهورية مستقلة. وتقول أنجيلا (52 عامًا) التي كانت سابقًا ممرضة أطفال “ماذا يمكن أن آمل بعد (ما جرى)؟ ماذا أقول عندما يكون المنزل مدمّرًا؟ عندما تكون الحياة مدمّرة؟”. وتضيف “ليس هناك عمل ولا طعام ولا مياه. كنّا نتقاسم مع الأطفال والأحفاد ملعقة طعام”، متحدّثةً بحزن شديد عن الأطفال حديثي الولادة “الذين يموتون من الجوع في الحضانات”. وتتابع متسائلة “أي مستقبل؟ لم أعد آمل أي شيء”، قبل أن تذرف الدموع وتواصل طريقها بسرعة. ومن جانبها كانت إيلينا إيلينا (55 عامًا) تعمل أستاذة في جامعة ماريوبول المهنية في قسم المعلوماتية، وتذكر أن منزلها احترق و”لم يبقَ منه شيء” وأنها صارت تعيش في منزل ابنتها وصهرها. وأمنيتها الوحيدة هي أن تستعيد الحياة التي كانت تعيشها قبل اندلاع النزاع. وتقول إيلينا بغصّة “أودّ أن أتمكن من العيش في شقّتي في أيام السلم، أريد أن أثرثر مع أبنائي”. الشوارع أصبحت خاضعة لسيطرة العسكريين الروس وحلفائهم الانفصاليين الذين احتلّوها على حساب تدمير مدينة ساحلية كانت تضم أكثر من نصف مليون نسمة قبل بدء الحرب ومن جهتها تروي أوكسانا كريشتافوفيتش -التي كانت تعمل طباخةً في فندق في ماريوبول- أنه تمّ توظيفها للاهتمام بالحيوانات. وتبدأ في عمر 41 عامًا حياة جديدة؛ تطعم الماشية وتحلب الأبقار وتدرك أنها أفضل حالاً من غيرها، لأنها تحصل على طعام مقابل هذا العمل. وتقول وهي تحمل وعاء في قفص الراكون، إن “المطعم الذي كنتُ أعمل فيه على الضفة اليسرى دُمّر. كنت طباخةً فيه، الآن صارت الحيوانات هي زبائني”. وتبدي بعض التفاؤل عندما تشير إلى أن ماريوبول “تفتقر إلى كل شيء” ورغم ذلك “نعتاد ونتأقلم ونعيش”. وبدوره يعمل سيرجي بوغاتش (60 عامًا) حارسًا في حديقة الحيوانات. وقبل المعارك كان يعمل في قطاع السكك الحديدية في مجمّع آزوفستال الصناعي الذي كان آنذاك يوظّف أكبر عدد من الأشخاص في المدينة وبات اليوم مدمّرًا. وفي أواخر فبراير، عندما بدأت روسيا هجومها، كان لا يزال لديه شهران قبل أن يتقاعد، بعد 30 عامًا من العمل. أما الآن فلا يعرف ما إذا كان سيحصل يومًا ما على معاشه التقاعدي. لكن من المستحيل أن يشتكي. فهو يقول بفخر إن “الشعب الأوكراني ليس كسولًا؛ فما إن توقف إطلاق النار حتى خرج الناس من الملاجئ وبحثوا عن عمل. وأصبح البعض يعمل”.
مشاركة :