تنظر أنقرة وإيران بارتياح إلى أنباء عن نقل القوات الروسية من سوريا إلى أوكرانيا في ضوء الضغوط العسكرية والاقتصادية التي يعاني منها الروس حاليا، ما سيفسح لهما نفوذهما في الفضاء السوري وتنفيذ خططهما دون ممانعات روسية. قابل غالبية اللاعبين في الساحة السورية الأنباء المتداولة بشأن حدوث انكفاء لروسيا هناك ونقلها جزءا كبيرا من قواتها إلى أوكرانيا، بارتياح نظرا إلى ما يمهد له من تعزيز لنفوذهم ومنحهم المقدرة على تعظيم مصالحهم. ما يعد أمنيات للبعض يمثل هاجسا مقلقا لآخرين، وهذا واضح في موقفي طهران وتل أبيب، ففي حين تنظر الأولى باطمئنان وتحفز للأنباء (غير المؤكدة) بشأن تخفيض روسيا لقواتها في سوريا وسحب المئات من مرتزقة “فاغنر” لتعزيز وجودها في أوكرانيا، تجدها الثانية مقلقة لأن معناها المباشر الدفع بإيرانيين وميليشيات موالية لطهران بدلا من الجنود الروس المنسحبين. تتمثل استفادة إيران المباشرة في إمكانية سيطرتها على القواعد الروسية بعد نقل الأصول الجوية من سوريا إلى أوكرانيا، وهو ما أبدت موسكو تخوفها حياله بعد نقل طائرة عسكرية خاصة في مارس الماضي عددا من القادة المحليين للقوات التي تدعمها روسيا في سوريا إلى موسكو، لإطلاعهم على آلية نقل المقاتلين إلى أوكرانيا لمساندة القوات الروسية. وتنطبق هذه المعادلة على التنافس بين واشنطن وأنقرة من جهة، وموسكو من جهة أخرى، لأن كل تغيير في مستوى الحضور الروسي في سوريا ينعكس على مخططها بعيد المدى في تأمين موقع استراتيجي متقدم لها في مواجهة الولايات المتحدة وحلف الناتو. متغير فارق ☚ روسيا قد تخفف من تواجدها ومستوى نشاطها العسكري في بعض المناطق لكنها لا تتخلى بالكامل عن نفوذها وتموضعها في ساحة من أهم مواقع تمركزها الإستراتيجي بالعالم ☚ روسيا قد تخفف من تواجدها ومستوى نشاطها العسكري في بعض المناطق لكنها لا تتخلى بالكامل عن نفوذها وتموضعها في ساحة من أهم مواقع تمركزها الإستراتيجي بالعالم إذا أقدمت روسيا مضطرة على تخفيض مستوى نفوذها ونشاطها الميداني والعسكري في سوريا بهدف دعم قواتها في أوكرانيا، حيث تلاقي صعوبات بالغة في الحسم والخروج بأقل الخسائر، فهذا يفسح المجال لما تتخوف منه موسكو بشأن تطوير التنسيق والتعاون بين واشنطن وأنقرة في سوريا. وتعد سيناريوهات التفاهمات الأميركية – التركية جاهزة للتطبيق في هذا السياق، ويرجح ألا تتردد واشنطن في منح أنقرة تنازلات بشأن ملف قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، مقابل الحصول على مواقف تركية أكثر فاعلية وتأثيرا في ترجيح كفة أميركا والغرب في الصراع الدائر بأوكرانيا. وعززت الإجراءات التركية الأخيرة ضد روسيا هذا التوجه، بعد أن منعت سفنها من العبور إلى البحر الأسود عبر مضايقها، ومنعت مرور طائراتها المحملة بالجنود والأسلحة لقواعدها في سوريا عبر الأجواء التركية. وفي ضوء تقارير نشرتها مواقع وصحف إسرائيلية وغربية وإيرانية نقلا عن صحيفة “موسكو تايمز” المعارضة، تفيد بنية روسيا سحب مقاتليها من سوريا من ثلاثة مطارات للزج بهم في المعركة في أوكرانيا، فإن سوريا قد تصبح مهيأة بعكس المرحلة السابقة لتكون ساحة لتصفية حساب واستنزاف لروسيا. ومنذ بدء الحرب في أوكرانيا وقبل تداول أنباء سحب بعض القوات الروسية، حرص خصوم موسكو طوال السنوات الماضية على ألا تخرج انعكاسات الحرب عن حدود أوكرانيا، كي لا تخرج الأمور عن السيطرة ويتحول الصدام بين الفاعلين إلى صراع عالمي واسع. وتشجع خصوم روسيا بعد تناثر أنباء نقل مقاتلين من سوريا إلى أوكرانيا بهدف تشتيت القوة الروسية وإضعافها، ما يفتح الباب أمام صراعات مستقبلية سوف تكون روسيا وحلف الناتو في قلبها. ورغم أن موسكو لم تؤكد رسميا هذه المزاعم ولم تلاحظ حتى الآن عمليات إعادة تموضع كبيرة لقواتها بسوريا، إلا أن كل المعطيات ترجح ذهابها عاجلا أو آجلا لتخفيف نشاطها هناك، ونقل جزء من قواتها في ظل ما جرى التحضير له على الساحة الأوكرانية من توفير خطط هجومية شاملة تمكنها من احتلال أقاليم بكاملها، بهدف استخدامها لوقف الحرب في الوقت الذي تراه مناسبا لذلك. يحرم الاضطرار إلى تقوية الجبهة في أوكرانيا والخروج من مستنقع الصراع موسكو من الأفضلية التي حققتها في الساحة السورية أمام النفوذ الإيراني، الذي ظلت روسيا تحجمه مانعة طهران من تمديد نفوذها في سوريا داخل قوات النظام السوري وفي قلب أجهزته الأمنية. يرجح ألا تتردد واشنطن في منح أنقرة تنازلات بشأن قسد مقابل الحصول على مواقف أكثر فاعلية في ترجيح كفة أميركا والغرب وأمعنت موسكو في تقليص نفوذ طهران في سوريا، مستفيدة أيضا خلال الفترة الماضية من الضربات الإسرائيلية المستمرة للقوات الإيرانية على الأرض، خاصة في ما يتصل بالموانئ البحرية على الساحل السوري. ستقف إيران وميليشياتها الناشطة في سوريا أمام واقع مختلف في حال سحب جزء كبير من القوات الروسية، التي تتفاوت تقديرات أعداد عناصرها بين عشرة آلاف وما يقارب الستين ألف جندي. وكلما قلصت روسيا حضورها توسع نفوذ إيران، منفردة بالنظام السوري وتملي عليه شروطها مقابل تعويض الخروج الروسي، علاوة على ما يمكن أن تستحوذ عليه من حرية ميدانية على حساب الجيش السوري في غياب الطيران الروسي. وتعكس التطورات الأخيرة المعادلة السابقة التي كرستها موسكو على مدار أعوام منذ تدخلها العسكري في سوريا عام 2015، وبعد أن كانت روسيا هي من تمدد نفوذها على حساب إيران، صارت للأخيرة أفضلية لتحقيق نفس الهدف بعد تزايد انشغال موسكو بحربها في أوكرانيا. ومن دون النفوذ الروسي على الأرض في سوريا، يمكن لطهران بسهولة الدفع بوحداتها وتكريس حضور ميليشياتها وتمكين الحرس الثوري وحزب الله اللبناني من السيطرة على بعض القواعد التي أُخليت، ما يعني امتلاك أوراق إضافية للتأثير بشكل أكبر على نظام الرئيس بشار الأسد، بل تعزيز نفوذها بشكل أوسع بالمنطقة بأسرها. وبعد أن كانت عملية إعادة الانتشار من منطلق خطة مشتركة وفي إطار تفاهمات بين موسكو وطهران، ومثال على ذلك ما جرى في موقعين عسكريين بريف حمص الشرقي عقب بدء الحرب الأوكرانية مباشرة، يبدو أن الأمور تتجه لتصرفات أحادية من إيران بجهود الميليشيات المرتبطة بها، في ضوء ما رُوج من مزاعم التقليص الكبير لأعداد القوات الروسية في سوريا. لا تقتصر مضاعفة النفوذ وتقليصه على الجانب العسكري والميداني، إنما يشمل الجانب الاقتصادي، حيث ستجد طهران ذلك فرصة لتسريع تنفيذ مشاريعها المعلقة مع حكومة دمشق، مقابل تخلي موسكو عن المشاريع الاقتصادية التي اتفقت على تنفيذها مع الحكومة السورية. تحفز تركي – جهادي ☚ المهمة الأخيرة في سوريا قبل الانتقال إلى أوكرانيا ☚ المهمة الأخيرة في سوريا قبل الانتقال إلى أوكرانيا تتحفز تركيا بقوة لسيناريوهات تخفيض روسيا لقواتها بسوريا، وهي الساحة الرئيسية التي تخطط حكومة العدالة والتنمية لجعلها مفتاح الحل لأزمتها في الانتخابات المقبلة، التي من المتوقع أن تُجرى في موعدها المعلن خلال يونيو من العام المقبل، ويشكل ملف اللجوء السوري أحد أهم محاور التنافس الانتخابي فيها. تنصب خطط الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في توطين أكثر من مليون ونصف المليون من اللاجئين السوريين في بلاده بمناطق شرق وشمال سوريا، زاعما أن تلك المناطق الواقعة تحت هيمنة فصائل وتنظيمات جهادية سنية موالية لأنقرة، مثل هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) هي مناطق آمنة وقادرة على استيعاب تلك الأعداد. وظلت روسيا العائق الرئيسي الذي يحول دون تنفيذ الخطة التركية، متصدية لها بقصف مكثف واستهداف مقصود للمواقع التركية في الشمال ومناطق جبل الزاوية والتركمان، مبرهنة على أن المناطق الشمالية التي تسودها الفوضى وتشهد انتهاكات عدة من قبل الفصائل الجهادية المسلحة، هي مناطق غير آمنة أو مهيأة لاستقبال الأعداد الضخمة من اللاجئين. ولذلك تنظر أنقرة بارتياح إلى أنباء نقل القوات الروسية من سوريا إلى أوكرانيا في ضوء الضغوط العسكرية والاقتصادية التي يعاني منها الروس حاليا، ما يعني في المحصلة إمكانية توسيع تركيا نفوذها في الفضاء السوري وتنفيذ خططها على الأرض من دون ممانعات روسية. وسواء كان الانتقال الروسي شاملا على وقع ما تلاقيه في الساحة الأوكرانية من معضلات، أو تكتيكيا وجزئيا، فإن التوتر التركي – الروسي لم يعد خافيا، ما يهدد بانفجار الأوضاع في إدلب وانهيار تفاهمات أستانة، فضلا عما سيهدد مناطق نبع السلام وغصن الزيتون ودرع الفرات، ما يأذن بتوسيع نطاق المواجهات بهدف استنزاف روسيا على جبهات مختلفة. تركيا تتحفز بقوة لسيناريوهات تخفيض روسيا لقواتها بسوريا، وهي الساحة الرئيسية التي تخطط حكومة العدالة والتنمية لجعلها مفتاح الحل لأزمتها في الانتخابات المقبلة وتستفيد الميليشيات الشيعية الموالية لإيران في سوريا من هذا المتغير، كما يمكن أن تستفيد الفصائل الجهادية المسلحة الموالية لتركيا في الشمال السوري، ويعد داعش من ضمن المستفيدين بالنظر إلى سحب موسكو أعدادا كبيرة من ميليشيا “صائدو الدواعش” والموصوفة بالقوات الخاصة الأفضل في الجيش السوري وعناصر من اللواء الثامن وغيره، لنقلهم للمشاركة في القتال في أوكرانيا. وكانت القيادة العسكرية الروسية قد أبدت رغبتها في تجنيد حوالي 2000 مقاتل محلي داخل سوريا، ممن كانوا يلعبون دورا مهما في المعارك ضد تنظيم الدولة، تمهيدا لنقلهم على دفعات إلى أوكرانيا بمقدار 150 مقاتلا في كل دفعة. وكما تترك القوات الروسية المنسحبة فراغا تحتله إيران وتركيا، تترك القوات الخاصة والفرق المتخصصة في الاشتباك الميداني مع مقاتلي داعش بعد نقلها إلى أوكرانيا، مساحات للتنظيم الإرهابي للتحرك وتكثيف النشاط. وفي المقابل هناك شكوك حول الأنباء المتداولة بشأن إقدام روسيا على نقل جزء كبير من قواتها من سوريا إلى أوكرانيا، حيث من الجائز أن تكون المعلومات التي نشرتها أيضا صحف إسرائيلية مثل صحيفة هآرتس وروجت لها إيران بقوة عبر وسائل إعلامها، من قبيل التهويل بهدف التمهيد الدعائي لواقع جديد على الأرض. يستند التشكيك على مقدار ما يمثله الملف السوري لروسيا التي قد تخفف من تواجدها ومستوى نشاطها العسكري في بعض المناطق، لكنها لا تتخلى بالكامل عن نفوذها وتموضعها في ساحة من أهم مواقع تمركزها الاستراتيجي بالعالم، ما يجعلها متشبثة رغم كل شيء بالإبقاء على قواعدها وتحالفاتها المحلية والإقليمية وتصديها لمطامع وخطط خصومها ومنافسيها. وإلى الآن لا يمكن تأكيد أو نفي هذه الأنباء، ما يعني أن سوريا لا تزال تشكل قاعدة عملياتية متقدمة ورئيسة للروس، ولم تُترك بعدُ للأتراك والإيرانيين والميليشيات والفصائل الموالية لهم لتنقض على مكتسبات روسيا المكلفة والمنجزة في الساحة السورية، التي تنظر إليها موسكو كجبهة ثابتة لا ينبغي تحريكها في ظل ضبابية المشهد غير المضمونة سيناريوهاته في أوكرانيا.
مشاركة :