تعيد خريطة الصراع بين اليمين المتطرّف، واليسار الاشتراكي في أوروبا هذه الأيام صراع السبعينيات والثمانينيات، حيث كانت الخريطة الحزبية لأوروبا ترجّح كفة اليسار الاشتراكي المعتدل، والذي كان يضم غالبية دول حوض البحر الأبيض المتوسط -بما في ذلك فرنسا في عهد بومبيدو- ودول اسكندنافيا، وحيث كانت العلاقات العربية الأوروبية في عصرها الذهبي، وهو ما تمثل بشكل خاص في إعلان البندقية، وفي فتح غالبية تلك الدول لمكاتب تمثيل لمنظمة التحرير الفلسطينية. خاصة في باريس، وروما، ومدريد. ولعل البعض لم ينسَ موقف فرنسا من حرب لبنان عام 1982، وتقديمها العون -هي ومصر- لقوات م.ت.ف. للرحيل من بيروت بشكل آمن. ولعلّ البعض لم ينسَ أيضًا تقديم إيطاليا لكأس العالم في كرة القدم الذي فازت فيه عام 1982 لمنظمة التحرير الفلسطينية. ورافق ذلك كله تحسنًا وتطوّرًا ملموسًا في مستوى العلاقات بين دول أوروبا -وعلى الأخص فرنسا- والمملكة العربية السعودية، وغالبية الدول العربية على كافة الأصعدة. بيد أن تصريحات المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأخيرة دونالد ترامب التي صدرت بالتوازي مع تصريحات رئيسة حزب الجبهة الوطنية مارين لوبان تدعو إلى التخوف من مرحلة جديدة من «الإسلاموفوبيا» أشد خطورة من تلك التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر الإرهابية، حيث لم تعد الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا وأمريكا تفرق بين الإسلام الحقيقي الذي يقوم على أسس الوسطية والاعتدال والتسامح، وبين الجماعات الإرهابية المتطرّفة التي تدّعي انتماءها للإسلام والإسلام منها براء. تزايد العمليات الإرهابية لداعش وضربها مؤخرًا لباريس ليس السبب الوحيد لصعود اليمين المتطرّف، ذلك أن فشل الحكومات الغربية بشكل عام في مواجهة الأزمات الاقتصادية بدءًا من العام 2008، وازياد موجات الهجرة واللجوء إلى أوروبا مؤخرًا بشكل كبير وغير مسبوق، وبما اعتبره البعض بأنه يشكّل تهديدًا مباشرًا للأمن الأوروبي، ساهم إلى حد كبير في صعود الأحزاب اليمينية المتطرّفة، خاصة في فرنسا وألمانيا، بحيث يمكن القول إن هذا الصعود أوجد خريطة سياسية جديدة لأوروبا بدأت أول مؤشراتها بنتائج انتخابات البرلمان الأوروبي.
مشاركة :