بعد ثلاثة أشهر من بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، وعلى الرغم من مضاعفة الغرب لدعمه العسكري والاستخباراتي لكييف، إلا أن دعاية الكرملين لا تزال تروج بثقة لنصر روسي حتمي. غير أن عددا من الخبراء الألمان ينظرون للأمر بشكل مختلف. جندي روسي على ظهر دبابة روسية خلال استعراض عسكري بمناسبة ذكرى "يوم النصر" على النظام النازي كل يوم إضافي يمر، إلا ويؤكد أن رياح الغزو الروسي لأوكرانيا لا تجري بما تشتهيه سفن صناع القرار في الكرملين. ورغم كل الانتكاسات، وبعد ثلاثة أشهر من بدأ الحرب لا يزال الروس واثقون من النصر. ونقلت وكالة إنترفاكس عن وزير الدفاع سيرغي شويغو قوله (الثلاثاء 24 مايو/ أيار 2022) أنه "على الرغم من المساعدات الغربية المكثفة لنظام كييف وضغط العقوبات على روسيا، سنواصل العملية العسكرية الخاصة حتى يتم الانتهاء من جميع المهام". وكرر شويغو العناصر الأساسية التي تقوم عليها دعاية بلاده لتبرير الحرب، بالقول إن روسيا اضطرت لتنفيذ "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا "لحماية شعبنا من الإبادة الجماعية وكذلك لنزع سلاح أوكرانيا والقضاء فيها على النازية". من جهته، أكد نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشيف أن "كل الأهداف التي حددها الرئيس (بوتين) ستتحقق. لا يمكن أن يكون الأمر غير ذلك، لأن الحقيقة، بما في ذلك الحقيقة التاريخية، إلى جانبنا". في سياق متصل، أكدت رئيس المفوضية الأوروبية أوزولا فون دير لاين (24 مايو) أن "أوكرانيا يجب أن تربح هذه الحرب"، داعية إلى التفكير من الآن في إعادة إعمار البلاد واستغلال العملية كفرصة لإجراء إصلاحات عميقة. واستطردت المسؤولة الأوروبية على هامش مشاركتها في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس موضحة "سنفعل كل شيء حتى تتمكن أوكرانيا من تشكيل مستقبلها". وبهذا الصدد كتبت صحيفة "أوغسبورغه ألغماينه" الألمانية (23 مايو) معلقة "لم تعد أوكرانيا تسعى للتفاوض مع روسيا في الوقت الحالي، وبدلاً من ذلك، أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن هدف الحرب يتمثل في إعادة الجيش الروسي إلى مواقعه قبل 24 فبراير/ شباط. في هذه المرحلة، يجب أن تنتهي جميع النقاشات الألمانية حول هذا الموضوع. لأن الجميع متفقون تقريبًا على أنه لا ينبغي لأحد أن يُملي على الأوكرانيين ما يريدون ". موازين القوى بعد ثلاثة أشهر من الحرب عكس ما توقعه الكرملين في بداية الغزو لأوكرانيا تعثر عمليات الجيش الروسي على عدة جبهات، إذ اضطرت الجيش الروسي للانسحاب من محيط العاصمة كييف وتشيرنيهيف في الشمال نهاية مارس / آذار الماضي، فيما عرف شهر مايو/ أيار الجاري انسحابا جزئيا من خاركيف شرق البلاد. غير أن روسيا تمكنت من الاستيلاء على ماريوبول وتسعى للسيطرة على منطقتي دونيتسك ولوهانسك في إقليم دونباس الذي تتركز فيه معارك طاحنة، فيما تعرف باقي مناطق البلاد نيران أقل كثافة حيث تشهد عمليات قصف بالصواريخ بعيدة المدى. ووفق مصادر أوكرانية فإن الجيش الروسي تكبد خسائر فادحة بمقتل أكثر من 29 ألف جندي و1302 دبابة وأكثر من ثلاثة آلاف آلية مدرعة وما لا يقل عن 205 طائرة مقاتلة (إلخ..). غير أن الجيش الأوكراني نفسه يتكتم عن خسائره التي لم يُحدثها منذ منتصف أبريل / نيسان الماضي. ومن الصعب التحقق من هذه الأرقام من مصادر مستقلة. وباتت الخارجية الأوكرانية تتحدث عن هدف طرد الروس بشكل كامل من أوكرانيا كهدف للحرب، بما في ذلك المناطق التي ضمتها روسيا عام 2014 أو التي تم إخضاعها لسيطرة الانفصاليين الموالين لروسيا. غير أن مراقبين يشككون في واقعية هذا الهدف ومن بينهم الخبير والبروفيسور كارلو ماسالا من جامعة بوندسفير (الجيش الألماني) والذي صرح لقناة "إن.تي.في" ونقله عنها موقع "ديرفيستن" الألماني (18 مايو) بأنه "لم يحدث هجوم مضاد كبير لحد الآن من قبل أوكرانيا" في دونباس، نجح الأوكرانيون جزئيًا في استعادة مكاسب على الأرض "لكننا نتحدث عن بضعة كيلومترات فقط". واستطرد ماسالا موضحا أن بوتين لم يعد بإمكانه الخروج من هذه الحرب مع حفظ ماء الوجه، لأن الجيش الروسي تلقى فعلا انتكاسات عسكرية "إذا نظرت إلى ما أرادوه في البداية، وما الذي يريدونه في هذه الأثناء وما يركزون عليه الآن، فعليك أن تقول: إنهم يعانون من هزائم عسكرية متتالية ". موقف برلين بين المطرقة والسندان تجد ألمانيا نفسها بتقاليدها الديبلوماسية المسالمة مشتتة أمام معادلة معقدة، بين التزاماتها مع حلفائها وكذلك واجب التضامن مع بلد أوروبي تم غزوه بقوة السلاح، ومن جهة أخرى أهمية عدم قطع شعرة معاوية مع موسكو في أفق إعادة بناء جسور السلم والأمن في أوروبا. موقع "إن.دي.إير" الألماني (21 مايو/ أيار 2022) كتب بشأن هذه المعضلة "إنهاء أعمال القتل والمعاناة الشديدة في أوكرانيا، لن يكون ممكنًا إلا بتقديم تنازلات لروسيا المعتدية. غير أن هذه التنازلات تنطوي، بالإضافة إلى العدوان غير المقبول وغير القابل للجدل على السيادة الأوكرانية، على مخاطر لا تُحصى للدول الأخرى التي تستهدفها روسيا، خصوصا جمهوريتي مولدوفا وجورجيا السوفييتية سابقا وغير المنحازتين حاليا". وخلص التعليق إلى حقيقة مرعبة، وهي أنه لا يمكن إيقاف عدوان بوتين إلا عسكريًا وليس بالوسائل الدبلوماسية، وهو ما ينطوي بدوره على مخاطر المعاناة في أوكرانيا. ثم إن مواصلة تقديم المساعدة العسكرية لأوكرانيا يتم بالأساس من قبل دول حلف الناتو، مما يزيد من مخاطر حرب شاملة تتجاوز حدود أوكرانيا . ومع ذلك، فإن الجدل لا يزال محتدما في ألمانيا بشأن أهداف الحرب وتداعياتها. ويرى المستشار أولاف شولتس أنه لا ينبغي أن يكون هناك سلام تمليه موسكو مؤكدا أنه يجب أن تظل أوكرانيا "موجودة". غير أن موقف برلين يضع مسافة تجاه الموقف الأمريكي الذي يهدف علانية إلى "إضعاف روسيا" حتى لا تصبح قادرة في المستقبل على غزو دول أخرى، بل وتذهب واشنطن إلى حد اعتبار أن الرئيس الروسي فلادمير بوتين لا يجب أن يبقى في السلطة. أهداف تدخل في باب المحرمات ولا تدخل في عقيدة السياسة الخارجية الألمانية. الفيلسوف الألماني بيتر سلوترديك ابتعد عن الموقف الرسمي لبرلين وصاغ أهداف الحرب من وجهة نظر غربية بالقول إن "الغرب يجب أن يساعد بوتين على الفشل" وليس بالضرورة على حفظ ماء الوجه. خبراء يرون في "سيفيرودونتسك" نقطة تحول تشكل معركة سيفيرودونتسك، آخر المدن الرئيسية الخاضعة للسيطرة الأوكرانية شرق البلاد، نقطة تحول يرى عدد من الخبراء أنها ستكون حاسمة في الحرب. ولعبت منطقة دونباس في جنوب شرق أوكرانيا دورًا رئيسيًا في خطط بوتين، حيث توجد أقلية روسية، ويعد وضع الحكم الذاتي فيها أحد أكبر نقاط الخلاف بين موسكو وكييف. كان ذلك قبل عام 2014، عندما قام الجيش الروسي بغزو شبه جزيرة القرم قبل ضمها. ووفق صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، فإن رئيس لوهانسك صرح بأن القوات الروسية، تقصف المنطقة باستمرار باستخدام تكتيكات "الأرض المحروقة" في سيفيرودونتسك. من جهته، حذر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من أن القتال في الشرق أصبح داميًا بشكل متزايد، حيث يُقتل حوالي مائة جندي أوكراني يوميا. ويسعى ا لجيش الروسي لتطويق سيفيرودونتسك التي يبلغ عدد سكانها قبل الحرب مائة ألف نسمة، وذلك بعد المعركة الطويلة للسيطرة على مدينة ماريوبول الساحلية. وتحاول موسكو السيطرة على دونباس، التي تضم منطقتي دونيتسك ولوهانسك بأسرع وقت. وأدت الخسائر الفادحة التي تكبدتها خصوصا في صفوف الضباط إلى الاستعانة بمجموعات "فرانكشتاين" المكونة من قوات من وحدات مختلفة. وتشير كثافة الهجمات الروسية على دونباس إلى أن بوتين يريد الآن تحقيق "هدفه الأدنى من الحرب" بكل قوته وهو السيطرة على جنوب شرق أوكرانيا. وفي تصريح لموقع فوكوس الألماني (24 مايو) أوضح هارالد كويات، المفتش العام للجيش الألماني (بوندسفير) أن الوضع الميداني "ديناميكي للغاية في الوقت الحالي، وردود فعل زيلينسكي تظهر ذلك بوضوح". وعلى عكس بعض الضباط الألمان السابقين رفيعي المستوى، دافع كويات عن سياسة المستشار شولتس ووصف "أفعاله التي توصف بالتردد" بأنه متماسك بذكاء شديد، "إنه يزن قراراته بعناية شديدة مع رصد مستمر للوضع". وبحسب كويات، فإن الحلقة المفقودة لتحقيق النجاح هو "خطوة أخيرة (..) على شولتس السفر مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكورن إلى الرئيس الأمريكي بايدن وتوضيح كيف يمكن إنهاء هذه الحرب سياسيًا". وفي وقت تزداد فيه ضراوة الحرب، فبالنسبة للروس سيكون الانتصار في سيفيرودونتسك بطعم الخسارة. وربما تعطي مبادرة ألمانية فرنسية مخرجا يضع حدا لهذه المأساة. تحليلات الجيش الألماني لمجريات الحرب أكد تقرير داخلي للجيش الألماني كشف عنه موقع "بيزنس إنسايدر" أن الهدف الأدنى للروس والمتمثل في إخضاع منطقة دونباس والمناطق الانفصالية في لوهانسك ودونيتسك معرض لخطر عدم التحقق، بالرغم من التفوق العددي للقوات الروسية. وأكد التقرير أن الروس يحاولون بكل قواهم تأمين دونباس والتقدم في منطقة شيرسون وتكثيف الضغط على أوديسا. غير أن الخبير العسكري ماركوس ريزنر، وهو رئيس قسم الأبحاث في الأكاديمية العسكرية بتيريزيان في فيينا، يرى أنه من الصعب على المراقبين في الغرب الحصول على تقييم موضوعي للوضع. من جهة أخرى يعتبر نجاح الأوكرانيين في الدفاع عن كييف انتصارا واضحا للجيش الأوكراني، إضافة إلى أن القتال في شرق أوكرانيا لا يسير وفق الخطة التي رسمها الكرملين. ولا يزال من السبق لأوانه الحسم في مآلات هذه الحرب، فقد تتحول إلى مواجهة استنزاف يقصف فيها كل طرف الطرف الآخر إلى أن يستسلم أحدهما. العمليات الضخمة لتسليم الأسلحة للجيش الأوكراني من قبل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي إضافة إلى الدعم الاستخباراتي النوعي الذي تقدمه أجهزة الاستخبارات الغربية، قد يحسم في نهاية المطاف بشكل من الأشكال الحرب لصالح أوكرانيا، لكن لا يزال من السابق لأوانه التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور. غير أن ريزنر أوضح أنه من المرجح أن تستمر الحرب "على الأقل حتى نهاية هذا العام أو منتصف العام المقبل". انكشاف نقاط ضعف الجيش الروسي كشف الغزو الروسي لأوكرانيا نقاط ضعف الجيش الروسي والتي تكمن بشكل خاص في تردي مستوى تدريب الجنود والتنسيق بين مختلف أنظمة الأسلحة، وهذا ما يرجح سيناريو حرب استنزاف طويلة الأمد أمام مقاومة الجيش الأوكراني التي لم يتوقع الروس شراستها. فرغم إلحاق الهزيمة باللواء 36 للجيش الأوكراني والسيطرة على 95% من أراضي منطقة لوهانسك وأسر آلاف الأوكرانيين، غير أن الروس اضطروا على سبيل المثال إلى الانسحاب من محيط كييف وتشيرنيهيف كما هو مشار إليه أعلاه. كما تورط بشكل محرج في مدينة بوتشا. ويرى عدد من الخبراء العسكريين في الغرب أن الانتصارات التي حققتها الآلة العسكرية الروسية تعود إلى استخدام القوات الجوية والقوة النارية للمدفعية والاعتماد على قوات جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك إضافة إلى الوحدات الشيشانية ". بالنسبة لأوكرانيا تكتسي هذه الحرب طابعا وجوديا، فخسارتها ستعني بكل بساطة اندثار أوكرانيا كما يعرفها العالم، فيما سيكون من الصعب على الروس تصور الهزيمة لأن ذلك سيعني انهيار قوة الجيش الروسي من حيث الردع وبالتالي إقبار الأحلام الإمبراطورية لموسكو. كلها عوامل ترجح حرب استنزاف قد تكون طويلة الأمد وقد يصعب على أي طرف تحقيق انتصار حاسم فيها. وبهذا الشأن، ذكر موقع "ميركور.دي" الألماني (23 مايو)، نقلا عن الاستخبارات البريطانية أنه "بعد ثلاثة أشهر من الحرب، من المرجح أن يكون الجيش الروسي قد تكبد عددا من الضحايا ما يوازي خسائر الجيش الأحمر في تسع سنوات من الحرب السوفيتية في أفغانستان"، وذلك بسبب مزيج من العوامل مثل التكتيكات السيئة والسيادة الجوية المحدود والافتقار إلى المرونة، حسب نفس المصدر. حسن زنيند
مشاركة :