لبيان أهمية ومتضمنات ومتطلبات الاستراتيجية الوطنية للاقتصاد الرقمي لا بد من التعرض لقسم من الملامح النظرية للاقتصاد الرقمي بدءا من أبرز مسمياته وتعاريفه ونشأته وتطوره وتجاربه العالمية والإقليمية المعاصرة. فقد أطلق على الاقتصاد الرقمي مسميات عديدة منها: اقتصاد الإنترنت، واقتصاد المعلومات والاقتصاد الجديد، واقتصاد الويب. وعرفت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الاسكوا) الاقتصاد الرقمي بأنه «الاقتصاد القائم على التكنولوجيا الرقمية ويستند إلى عدة مكونات، منها البنية التحتية التكنولوجية، والأجهزة، والبرمجيات، والشبكات، بالإضافة إلى الآليات الرقمية التي تتم من خلالها الأعمال التجارية والأنشطة الاقتصادية، كالتجارة الإلكترونية، والمعاملات الإلكترونية التي تتم عبر شبكة الإنترنت». كما عرف بأنه «عملية التفاعل والتكامل والتنسيق المتواصل بين تكنولوجيا المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات من جانب، وبين الاقتصاد القومي والقطاعي والعالمي من جانب آخر، وبما يحقق المزيد من الشفافية والسرعة والإتاحة لجميع المؤشرات الاقتصادية المساندة للقرارات الاقتصادية والتجارية والمالية في الدولة خلال مدة معينة». ويعرف أيضا بأنه الاقتصاد القائم على الانترنت. ومصطلح الاقتصاد الرقمي بشكل عام يشير إلى انتشار استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة، معبرا عن رؤية مستقبلية لعالم تكون فيه المعلومات الركيزة الأساسية للاقتصاد، متجسدة في بنية تحتية رقمية رفيعة المستوى، كفيلة بتحقيق ذلك في شتى مجالات الحياة، وبما يوسّع نطاق الفرص، ويحفّز النمو الاقتصادي للبلاد، ويحسّن سبل توفير الخدمات العامة. ويمثل الاقتصاد الرقمي أهمية بالغة لاتخاذ القرارات الرشيدة، حيث يوفر لمتخذ القرار سيلا من البيانات والمعلومات والمؤشرات التي ينبغي الاستناد عليها، فقد تجاوز الاقتصاد الرقمي الحدود والحواجز أمام تدفق المعلومات والسلع والخدمات وحركة رؤوس الأموال، ووطد فلسفة العولمة الاقتصادية والمالية. كما أنه أضحى ضرورة حتمية لبناء المدن والمجتمعات الذكية التي تسعى دول العالم المختلفة إلى إنشائها باعتبارها انعكاسا رئيسيا لجودة الحياة في ظل التطورات التقنية المعاصرة، وهو أيضا يعزز قدرات جميع الجهات الفاعلة في البنى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، سواء كانت حكومية أو خاصة أو مواطنين. ويتسم الاقتصاد الرقمي بالعمل على بناء مجتمع المعلومات عبر تسخير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لتحقيق العديد من الأهداف التنموية للدول والشركات وحتى الأفراد. والاقتصاد الرقمي رغم الحداثة النسبية التي يتميز بها التوجه العالمي نحوه إلا أنه كمفهوم ومرئيات يعد قديم الظهور نسبيا، فقد ظهرت باكورة الكتابات العلمية عنه عام 1921، حيث نشر الاقتصادي الأمريكي فرانك نايت أول دراسة له عن اقتصاد المعلومات. ثم توالى التأصيل النظري له في كتابات المفكر الاقتصادي مارشال في دراسته الموسومة «نظرية اقتصادية للتنظيم والمعلومات» المنشورة عام 1954، ثم برزت نظريات الاقتصادي فيرتز ما كلوب التي ركزت على اقتصاد المعرفة في الولايات المتحدة عام 1962، وفي عام 1977 أصدر الاقتصادي مارك يوري بورات دراسة من تسعة أجزاء تحتوي على دراسات معمّقة لقياس وتخمين حجم اقتصاد المعلومات. وفي عام 1989 أطلق عالم الاقتصاد كيبرج مفهوم علم المعلومات التنموي، الذي عرفه بأنه «العلم الذي يبحث في تأثير المعلومات على التنمية الاقتصادية»، مفترضا أن المعلومات تحقق أكبر قيمة مضافة حينما تمتزج بعناصر الإنتاج المادية والبشرية. إلا أن الدفع الأكبر للاقتصاد الرقمي ترافق مع الثورة الصناعية الرابعة التي منحته بعدا أوسع من خلال محصلة تفاعل التقنيات التي برزت عنها مثل انترنت الأشياء والهواتف الذكية، والبيانات الكبيرة وتقنية البلوك تشين والذكاء الاصطناعي وغيرها، ما منح دول العالم فرصة فريدة لتسريع خطى رقمنة اقتصاداتها ومجتمعاتها وصولا إلى تحقيق التنمية الاقتصادية الذكية، عن طريق إدخال نماذج عمل جديدة، ومنتجات جديدة، وخدمات جديدة، واعتماد طرق جديدة لخلق القيمة المضافة وتوفير فرص تشغيل نوعية قائمة على مهارات تقنية جديدة . الأمر الذي قاد إلى تمييز جديد لمستوى التطور بين دول العالم وفقا للتقنيات الرقمية، فبرز مؤشر عالمي جديد أطلق عليه مقياس الفجوة الرقمية Digital divide التي تعني درجة التفاوت في مستوى التقدم (سواء بالاستخدام أو الإنتاج) في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بين دولة وأخرى أو تكتل وآخر أو بين مدن الدولة الواحدة، أي أنها الفجوة التي تفصل بين من يمتلكون المعرفة والقدرة على استخدام التقنيات الحديثة وبين من لا يملكون هذه المعرفة وتلك القدرة. كما برز مؤشر تقييم الجاهزية للتحول نحو الاقتصاد الرقمي عبر رصد التطور في قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ومستوى الإنفاق على البحث والتطوير والابتكار. { أكاديمي وخبير اقتصادي
مشاركة :