حين تكُون اللوحةُ ذاكرة المكان (1 من 2)

  • 5/28/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

حين عرَّبْتُ سنة 1982 كتاب «الانطباعية» للناقد التشكيلي الفرنسي موريس سيرولَّا (1914-1997) وعيْتُ هذه المدرسة الفنية التي حرَّرت الرسام وأَطلقَتْه من محترفه إِلى الوساعة في رحاب الطبيعة، فراح يَنقُل المشهد وفْقَ حركة النُور المتحركة، ويشكِّل لوحته وفْقَ تدرُّجاتٍ في اللون وإِشراقاتٍ تُحدِّد مناخ المشهد من مداه القريب فالوسيط حتى الأُفق البعيد. لفظة «الانطباعية» أَطلقها للمرة الأُولى الصحافي لويس لُوروَى في مقاله لجريدة «الضوضاء» (عدد 24 أَبـريل 1874) عن معرض باريس (15 أَبريل إِلى 15 مايو 1874) منتقدًا بكلمة «الانطباعية» لوحة مونيه «انطباع عند شروق الشمس» (1872). وسَرَت مذذاك تسمية «الانطباعيين» على رسَّامي تلك الفترة. إِذًا: اللوحة الانطباعية مَعْنيَّةٌ بمنظر، بمشهد، بوجه، بِـمَعْلَم، بوُجوه، بأَشخاص، بشُروق الشمس أُو غُروبها، وما تقتنص من الطبيعة عينُ الرسام أَمام مَلْوَنِه فيما يشكِّل لوحته وفْق انسكاب النور لحظةَ يرسم اللوحة، حتى إِذا تغيَّرَ النورُ تغيَّرَ مزاج اللوحة. لذلك يحفل تاريخ الفن الانطباعي بلوحاتِ فنانين رسَموا المشهد ذاته في لوحات متعددة وفي أَوقات مختلفة من النهار، ما يبدو واضحًا فيها تزاوُجُ النور والظل بحسب اللحظات التي تتابعها ريشة الرسام. هكذا وصلَت إِلينا مجموعة لوحات خلَّدت المكان الذي وُلِدَت فيه فباتت ذاكرتَه. اليوم ربما زال المكان أَو تغيَّرت معالمه، فبقيَت اللوحة شاهدةً عليه. من تلك اللوحات التي خلَّدت الأَمكنة والـمَعالم، أَقتطف اليوم، في جزء أَوَّل من هذا المقال، ثلاث لوحات، مع صورة فوتوغرافية للمشهد الأَصلي كما هو في الطبيعة، فيُلاحظ قرَّاء «الرياض» كيف ظهر المشهد في اللوحة الفنية. قد يكون المشهد الأَصلي زال اليوم أَو تغيَّر عمَّا كان عليه يومَ التقطتْه عينُ الرسام قبل عقود، لكنه باقٍ مخلَّدًا في لوحةٍ تحتل حاليًّا مكانها المشرِّف في أَحد المتاحف العالمية. ڤـنسنت ڤـان غوخ (1853-1890): لوحة «مقهى الرصيف في صحو ليلة آرل» (1888). عاش الرسام سنةً وبعض السنة في تلك المدينة الفرنسية الهادئة، ورسَم فيها لوحاتٍ كثيرة جدًّا. وفيها بدأَت تُصيبه نوبات عصبية أَدَّت إِلى بتْره بيده أُذنَه اليسرى (كما ورد في مقالي السبت الماضي: «الرياض»- الملحق الثقافي). وفي تلك المدينة وضع نُسخًا عدَّةً (أَخيرتُها في 16 سـبـتمبر 1888) لهذا المقهى الذي بات بفضله مَعْلمًا شهيرًا يقصده الزوار والسيَّاح كي يشاهدوا المقهى اليوم ويقارنوه بلوحة ڤـان غوخ الذي خلَّده فيها (اللوحة أَيضًا منشورة في ملحق «الرياض» الثقافي السبت الماضي). ﭘـول سيزان (1839-1906): لوحة «جبل سانت ڤـيكتوار» (1905) وهي من أَشهر لوحاته. يذكر مؤَرخو الفن أَنه (بين 1885 و1905) وضع لهذا المشهد ذاته عن الجبل نحو 60 لوحة مختلفة اللحظات في أَوقات متعدِّدة من النهار، وأَحيانًا في دقائق متعدِّدة من الساعة الواحدة، بحسب النور والظل وحركة الشمس على الجبل قمةً وسفحًا. وبفضل لوحات سيزان أَخذ الزوَّار والسيَّاح يقصدون المنطقة، يجلسون في مطاعمها ومقاهيها، ويتأَملون هيبة هذا الجبل وكيف تتغير أَشعة الشمس على صخره الكلسيّ، كما رأَوا المشهد متعدِّدًا بريشة سيزان. أَندرو وايث (1917-2009): لوحة «عالم كريستينا» (1948). من أَشهر اللوحات العالمية في القرن العشرين. وضعها الرسام الأَميركي حين كان يعيش في مدينة كوشِنْغ الهادئة (ولاية ماين الأَميركية). ومن نافذة بيته الصيفي رأَى يومًا جارتَه الصبية آنَّا كريستينا أُولسُون المصابة بالشلل الكامل في رجْليها، وهي تحاول الزحف بكامل جسدها نحو بيتها في أَعلى التلة. ومنذ تلك اللوحة أَصبح البيت مَعْلَمًا يقصده الزوار والسيَّاح ليشاهدوا هذا البيت الذي وضعتْه حكومة الولاية على لائحة التراث الأَميركي بعدما خلَّده وايث في لوحته التي هي اليوم من أَبرز كنوز متحف الفن الحديث في نيويورك. ڤـنسنت ڤـان غوخ: لوحة «كنيسة أُوڤـير» (1890): وضعها الرسام إِبان إِقامته القصيرة في تلك المدينة (33 كلم شمالي غربي باريس)، ورسم للكثير من معالِمها نحو 70 لوحة (بمعدَّل لوحة كل يوم)، أَشهرها لوحة الكنيسة، رسمها في الأَيام الأَخيرة من حياته. وبعدها بأُسبوعين أَطلق النار على صدره في 27 يوليو1890 ما أَدَّى إِلى وفاته بعد يومَين، ودفْنِه في ضريح قريب من هذه الكنيسة التي أَمست بعدذاك معْلَمًا يزوره السيَّاح وينتقلون منها خطواتٍ قليلةً ليزوروا ضريح الرسام. كلُود مونيه (1840-1926): لوحة «انطباع عند شُروق الشمس». هذه هي اللوحة التي، من اسمها، راجَ اسم تيار الانطباعية وغيَّر جليًّا تاريخَ الفن التشكيلي في فرنسا وسواها. في اللوحة مراكبُ هادئةٌ تدخل مرفأَ هاڤـر (شمال فرنسا) حين هو موَشًّى بالضباب الصباحي. وكان الرسام - إِبَّان زيارته تلك المدينة مع زوجته وولده - صحا باكرًا (الساعة7:30 صباح الأَربعاء 13نوفبر 1872)، فبادر سريعًا إِلى رسم المشهد كما رآه من نافذة الفندق قُبالة المرفإِ الذي بات لاحقًا رمز الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر. (التتمة: «ﭘـيكاسو وآخرون» في الملحق الثقافي - السبت المقبل) غلاف «الإنطباعية» - مرجع رئيس لهذا الفن «بيت أُولسُون» المزار واللوحة مرفأُ هاڤـر اليوم.. اللوحة قبل 150 سنة

مشاركة :