لم تكن هند كامل يوما مجرّد ممثلة، أو وجها فنيا مثل غيره من الوجوه. في كل إطلالة لها كانت تبعث برسائل، وفي كل مشهد تؤديه كانت تدفع الملايين من المشاهدين إلى عدم التنازل عن سوية عالية يشترط أن يكون عليها نجومهم. كانت تحديا لذاتها أولا ولمحيطها، ومع إثارتها لشغف مشاهديها، أتعبت جيلها والأجيال التي تلتها في الظهور بجديدها المتواصل. وكي تستكمل دورها الذي اختارته لنفسها، عكفت طيلة أربع سنين على إعداد وكتابة كتاب هو أشبه بسجل الفن العراقي والعربي، أكثر منه سيرة ذاتية، غطى أربعة عقود عاشتها وكأنها ألف عام، وفي الوقت ذاته مرّت وكأنها ومضة، فلم تكبر ولم نكبر من يوم أن رأيناها أول مرة وحتى طرحها كتابها ”مسافر زاده الخيال“ هذا العام في 650 صفحة. رفضُها للانكفاء واللوذ بشخصية الضحية، وتفرّدها بذلك دونا عنا جميعا، نحن الذين واكبناها وانتظرنا أعمالها، أسهم في إبقاء أمل راسخ بالتجدد والعودة من جديد. عودة العراق وعودة الثقافة العربية وفنونها إلى الإسهام الحضاري الذي أريد له أن ينقطع، فلم ينقطع. ◙ هند كامل لم تكن يوما مجرّد ممثلة، أو وجها فنيا مثل غيره من الوجوه ◙ هند كامل لم تكن يوما مجرّد ممثلة، أو وجها فنيا مثل غيره من الوجوه تقول كامل لـ”العرب“ إنها نشأت في بيئة مثقفة، تقدّمية، علمتها ما هي أهمية التوثيق، وتضيف أن أسرتها كانت تتناقل الصور جيلا بعد جيل، وكل صورة من تلك الصور تحمل تاريخا باليوم والسنة والمناسبة والشخوص. ومع ذلك التوثيق الذي أغرمت به تروي أنه كان هناك ”فيض مرافق من المشاعر“. ذاكرتها كطفلة امتلأت بتفاصيل، ربما كانت في حينها غير مهمة، لكنها تقول “عندما انطلقت في مسيرتي الفنية في مهنتي كنتُ عن قصد ألملم وأحتفظ بالخبر الصغير والصورة والحوار والغلاف. والشيء الوحيد الذي كنتُ أحمله معي عبر الأسفار الطويلة خلال الأربعين سنة الماضية، كانت الصور“. تحولات كثيرة، تسميها كامل انقلابات وجدانية واقتصادية وسياسية، تقول عن نفسها بعد أن مرت بها ”كعراقية أنا لا أنفصل عن تاريخ بلدي السياسي والاجتماعي والإنساني مرات يصل في مواجهة مع الذات يحتاج إلى تقييم ذاته ومفاهيمه وموقفه من الحياة، وفي هذه الأربع أو الخمس سنوات الأخيرة قفز مجددا إلى البال أن أسجّل حياتي في كتاب“. أن تتحدّث عن ذاتك وعن الآخر والعصر معا، خطوة جريئة وصعبة. ولهذا تعتبر كامل نفسها شاهدة على عصر عاشت فيه طفولتها وصباها وشبابها وتأثيرها وبصمتها، وعاشت مع من تقول عنهم إنهم ”كانوا يحيطون بنا كرموز فكرية وثقافية وعلمية مؤثرة كان لها دورها في من حولها وفي المجال الذي عملوا فيه. وفي هذا كله كنتُ امرأة وممثلة خاضت غمار التحدث عن حياة مليئة بالنجاح والفشل والحزن والخيبة والانكسار مسألة ليست هينة“. كان عليها أن تقدم مسيرة فيها كثير من الضوء للأجيال القادمة، كما تقول، لتكون بذلك أول ممثلة عربية تقدّم مسيرتها الحياتية والفنية والاجتماعية في هذا المجلد الضخم بوثائق حقيقية ورقية فوتوغرافية أصيلة تعود ملكيتها إليها شخصيا، التزمت فيه الموضوعية والصدق وعدم المحاباة. بيت برائحة القهوة ◙ رفضُها للانكفاء واللوذ بشخصية الضحية، وتفردها بذلك، أسهما في إبقاء الأمل بعودة الفن الراقي مجدداً ◙ رفضُها للانكفاء واللوذ بشخصية الضحية، وتفردها بذلك، أسهما في إبقاء الأمل بعودة الفن الراقي مجدداً في بيت هو أشبه بمولّد ثقافي وفني ولدت كامل في الكاظمية ببغداد، وحين تقول إنها توثق بالصورة اليوم، فهي ترث ولعاً بالتصوير من أبيها، وهو الأكاديمي والفنان. والدتها الممثلة فوزية الشندي، أول خريجة بدرجة البكالوريوس في كلية الفنون الجميلة ببغداد وأول من حصلن على درجة الماجستر في الإخراج المسرحي في العراق. ذلك هو البيت الذي نشأت فيه، والذي كان صورة حيّة من صور الحياة المدنية التي قدّمها العراق في الستينات، بيت في الطابق الثاني بحي الجامعة، كانت كامل ترسم فيه وتكتب الشعر وتغني وتمثل في نشاطات المدرسة، إلى أن درست في كلية الفنون الجميلة وتخرجت منها كمخرجة بدرجة البكالوريوس في تخصص الفنون السمعية والبصرية. عرفها الجمهور في واحدة من أكثر إبداعات يوسف العاني واقعية وحرارة ”رائحة القهوة“ التمثيلية التي شاركها بطولتها قاسم الملاك والتصقت عباراته الشهيرة التي رددها فيها ”اللكلك علّه وطار، وكّر ببيت المختار“ بذاكرة الناس مثلما ارتبطت نبرته في ”بزونتي“ التي كان يخاطب بها كامل. عمل فني كان جزءا من مشروع إنتاج قوي اختطته دائرة الإذاعة والتلفزيون في وزارة الثقافة والإعلام العراقية وحصد العديد من الجوائز العربية والعالمية، ولو كتب له أن يستمر كان سيغير وجه الدراما العربية عما هو عليه الآن. ◙ موسوعة هند كامل التي تطرحها اليوم في 650 صفحة، لم تعتمد على الصور والحوارات وحسب، بل لجأت إلى ما سمتها بالرواية الصحفية، لتعكس سمة متكاملة لذلك العصر من البيئة والملابس إلى الذوق والمستوى الفكري والمادي للشخوص وما التوثيق إن لم يكن إيقاظا لما ظن الناس أنه قد فات ومات؟ تقول ”الكتاب يحوي فصولا تحتل القصة الفوتوغرافية منها الجزء الأكبر والأبرز هو تركي للصورة تتحدث عن حياتي، فاستعنت بدربتي التلفزيونية والسينمائية لصياغة هذا الفصل الروائي بالاستناد إلى مجموعة هائلة من الوثائق البصرية لكل المراحل، لكن أن تختصر رواية عشر سنين، رواية طفولة أو صبا أو شباب واحتراف بصورتين أو صورتين أو حتى ثلاث، لتكون مثل قصة قصيرة مكثفة بالمعلومة والتفاصيل التي تعني ذلك الزمن، بيئة وشخوصا وسلوكا“. مهمة شاقة خاضتها كامل وهي تختزل الزمن لإيصال المعلومات، متكئة على نباهة القارئ المتمرّس الذي سيكتشف الكثير من الأحداث والحكايات التي ضختها من خلال الصورة. لم يكن ذلك خيارا أو حلا مقترحا لسرد سيرة، فهي تؤكد أنها تقصّدته لإعطاء سمة ذلك العصر، البيئة والملابس والذوق والمستوى الفكري والمادي لشخصياته. من صالات العرض ورائحة خشبة المسرح وكواليسه، ومن الصوت والدوبلاج في عمر مبكر بدأت تتعرف إلى عالم التمثيل، ومن خلال الأعمال الكارتونية والمشاركات الأولى خلال سنين الدراسة، صنعت حضورها، وصولا إلى بطولة الفيلم التلفزيوني ”حيث لا يقف القطار طويلا“ مطلع الثمانينات، العمل الذي كتبه إسماعيل فهد إسماعيل وأخرجه كارلو هارتيون. ثم فيلم ”الحدود الملتهبة“ مع صاحب حداد، والدراميات العراقية واسعة الانتشار مثل ”النسر وعيون المدينة“ و“أيام ضائعة“ وغيرها. وقفت أمام كبار الممثلين العرب مثل يحيى الفخراني في ”بابل حبيبتي“، وصلاح ذو الفقار وسميحة أيوب في ”المرايا“ لرفيق الصبان وفيصل الياسري. وكان لتجسيدها لأكثر من عشرين شخصية تاريخية دور كبير في تخيل الجمهور العربي لتلك الشخصيات وإحساسهم بها. وبذلك لم يتوقف تأثير كامل على الدراما العراقية، فكان تنقلها وعيشها بين العواصم العربية عاملا مساعدا لتعزيز حضورها على الشاشات الخليجية والمصرية طاغيا، وهناك برزت قدراتها على تغيير تقنياتها كممثلة في تجسيد شخصيات مركبة مختلفة الأمزجة والطباع، وتجلى ذلك في مسلسلي ”رجال في الذاكرة“ و”نساء نساء“، وكذلك في ”الذخائر“ و“قاضي القلوب“ مع راديو وتلفزيون العرب. وظهرت رغبتها بالتعبير عن طاقتها التي تجاوزت التمثيل إلى الكتابة والإعداد في برنامج ”شاطئ الأمان“. بقيت بصماتها على كافة الأعمال التي شاركت فيها واضحة ومختلفة، كما في ”السياب“ مع سعدون جابر، و“حكاية المدن الثلاث“ و“اللسان العربي“ والعشرات من الأعمال التي قدمتها. رواية من نوع آخر ◙ تأثير هند كامل يتسع نحو الساحة العربية بعد أن وقفت أمام كبار الممثلين مقدّمة أدواراً مركبة وصعبة ◙ تأثير هند كامل يتسع نحو الساحة العربية بعد أن وقفت أمام كبار الممثلين مقدّمة أدواراً مركبة وصعبة موسوعة كامل التي تطرحها اليوم، لم تكن الصورة وحدها هي عمادها ومركز ثقلها وحدها، بل لجأت فيها إلى ما سمتها بالرواية الصحافية التي اعتمدت فيها على مجموعة من الحوارات التي أجريت معها على أيدي كبار الصحافيين، والتي وردت فيها مواقف ورؤى واحتجاجات ومؤازرات، تاركة حرية التلقي للقارئ دون تدخل منها، ليتمكن من ملاحقة التفاصيل. ورغم ذلك لم تجد أن الروايتين البصرية والصحافية كافيتان، فصنعت كتابها على ثلاثة فصول حوارية، لأن هكذا سرد كما تقول، لن يُنظر إليه بطريقة وافية، فدعمته بحوار تناول حياتها المهنية التي امتدت أربعين عاما ليغطي احترافها في التلفزيون والسينما والمسرح والإذاعة أجراه معها الناقد العراقي علي الياسري. وبحوار معزّز بحديث عن المرأة، الأم والزوجة والإنسانة وكيف ترى الحياة من منظورها الخاص، معاناتها ونجاحاتها وإحباطاتها، أعدته الصحافية ورود الموسوي. ولا تغيب وجهة نظر الآخر في كتاب المسافرة التي تزودت بالخيال والوثيقة، من خلال زميل دراستها الكاتب والناقد مروان ياسين الذي قدّم رؤية تحليلية متخصصة لتجربتها وعصرها، بالإضافة إلى شهادات صحافية وفنية تتخلل فصول الكتاب. بين عصرين صمّمت كتابها مضمونا وشكلا، وهي تصف كيف كانت تصرّ على المخرج التقني أن يحتفظ بأدق تفاصيل الصور القديمة، دون حذف أو تعديل، تقول ”كنت أريد الإبقاء على الستارة الممزقة أو الخربشة بالقلم على الصورة، فهي جزء من الوثيقة، كانت لدي قصديّةٌ الهدفُ منها ليس استعراض شخصيتي بل لتأكيد أسلوبية ذلك العصر وذائقته، المرأة في ذلك العصر، والممثلة في ذلك العصر، هذا الكتاب قيمته عندي ليست الآن، بل ما بعد الآن، للأجيال التي تبحث لتعرف كيف كان الممثل يعيش وكيف كان يتصرف، مستواه الفكري، وتعامله، الرموز التي أثرت به“. تعترف أنها عاشت في عصر صعب، رغم جمالياته، إلا أنها تقول ”كان عصرا هناك شائكية في تقييمه وقراءته وتحليله، العصر السياسي الذي عشنا معه كل هذه التغيرات الجذرية التي مرّ بها العراق، هناك إشارات وقراءات من خلال حادثة أرويها في الكتاب حملت عنوان (الفستان وصدام حسين) على سبيل المثال“. ◙ التحولات الكثيرة التي تسميها هند كامل انقلابات وجدانية، جعلتها كعراقية لا تنفصل عن تاريخ بلدها السياسي والاجتماعي والإنساني ◙ التحولات الكثيرة التي تسميها هند كامل انقلابات وجدانية، جعلتها كعراقية لا تنفصل عن تاريخ بلدها السياسي والاجتماعي والإنساني أما عن المستقبل، فترى كامل أنه لا يمكن إيقاف الزمن. تبقى متفائلة، لكن في الوقت ذاته تضع خطوطا تصفها بالحمراء تحت كثير من التناقضات والاستسهال الحاصل اليوم في المهنة، تقول ”عصر التكنولوجيا الذي دخلنا فيه الآن، عصر بالرغم من تفوقه الكبير، إلا أنه ينطوي على مخاطر كبيرة جدا، لذلك أقول إن الحضارة ابتدأت برمز، قبل أن تكون هناك كتابة، كانت هناك رموز للتعبير عن الفكر والمشاعر والحدث، ومن هنا جاءت مرحلة الكتابة، وكلنا نعرف أن الحضارة السومرية لولا التدوين لما انتقلت إلينا ولما كان هناك تاريخ. الآن في عصر التكنولوجيا تراجعنا بحيث أصبحنا نعبر عن طريق الإيموجي والرمز في التعبير عن مشاعرنا ومواقفنا وتعليقاتنا، وفي تقديري المشاعر الإنسانية والرؤية الفلسفية العميقة ذاهبة نحو، لا أقول الفناء، ولكن إلى التضاؤل يوما بعد يوم“. عن المشهد الفني في العراق اليوم تقول كامل إن ”هناك اختلاطا كبيرا حاصلا في الأوراق الآن، هناك الموهبة واللاموهبة، وهناك الاستسهال والجاد، وهذا موجود في كل العصور، لا يختلف عن أي مكان آخر، لكن الفروقات حادة جدا، وفي بعض الأحيان تكون خطرة، وأعتقد أن هذا الاختلاط الشديد، بالرغم من أن الكم أكثر اليوم، لكن النوع لا يزال بحاجة إلى نضج، ولو أن هناك قضية جدلية تقول التغيير الكمي بالنتيجة سيؤدي إلى تغيير نوعي، لكن لا تزال الحركة الفنية في العراق حاليا بحاجة إلى زمن أطول حتى تبني شخصية ناضجة بنضوج سبعينات وثمانينات القرن الماضي“. الرحلة معها شيقة وثرية، في حوارية مختزلة، فكيف في ثنايا كتاب ضخم مثل الذي صنعته كعمل فني أكثر من كونه كتاب ذكريات، واليوم لدى كامل التي باتت بمرتبة الأيقونة لدى العراقيين، نشاطات جديدة، وعروض على الساحة الدرامية الخليجية والعراقية، وهي بصدد قراءة العديد من النصوص المقدمة لها لتواصل تقديم رؤيتها للحياة والعالم من خلال مهنتها التي بقدر ما بدت حانية ورقيقة على منعطفاتها، بقدر ما تعاملت معها بجدية وصرامة شأنها شأن كل صاحب مشروع أراد لمشروعه أن يبقى محفورا في الوجدان كالنقوش البابلية الخالدة.
مشاركة :