بعد المقدمة الطويلة عن الاستقرار الذي لن يتحقق إلا بالدستور، وإشارة سريعة إلى أن دستور «الإخوان المسلمين» الإقصائي ذهب إلى غير رجعة، وتلميح مقتضب عن الغمة التي عاشتها مصر في ظل عام ونيف من حكم الجماعة وتمثيل الأخوة في مجلسي الشعب والشورى والاحتفالات الوطنية التي حولها مكتب الإرشاد إلى حلقات للمتطرفين وخريجي السجون ومجاهدي «القاعدة»، وأخيراً تذكير مطول بأن دستور 2013 هو المخرج الذي لا ثاني له من «متاهة جحا» التي تاهت فيها مصر والمصريون، هجمت المذيعة على الضيف سائلة إياه: «دكتور! الناس لازم تنزل تقول نعم أكيد للدستور ليه؟». تنحنح الدكتور مستشعراً الحرج ثم قال: «في الحقيقة، قبل أن نقول نعم علينا أن...». باغتته المذيعة رافعة حاجبيها ومحدقة مقلتيها ومثبتة كفيها على الطاولة متخذة وضع الاستعداد للهجوم: «لا لو سمحت، دعنا في البداية نوضح للسادة المشاهدين لماذا نعم؟». ازداد الدكتور تقوقعاً وتنامي حرجه وتوغل عرقه وقال: «نعم طبعاً للدستور بس...». شارف صبر المذيعة اللامعة على النفاد، واقترب حلمها من الزوال، وقالت بلهجة مهددة من خلف ابتسامة متوعدة (على ما يبدو لمعد الفقرة الذي اقترح اسم الدكتور): «بس إيه؟ بس مصر تضيع لو قلنا لا؟ بس المصريون سيموتون جوعاً لو قاطعنا؟ بس مصر والمصريون مهددون بعراق آخر لو مكثنا في بيوتنا؟ بس مصر ستتحول إلى سورية ثانية لو خفنا من إرهاب الجماعة؟ بس إيه يادكتور؟». هنا استسلم الدكتور ورفع الراية البيضاء وجرجر أذيال الخيبة، وقال: «لا طبعاً كل المصريين مطالبون بالتصويت على الدستور بنعم لأنه سبيلنا الوحيد للخروج من نفق الإخوان المظلم ومصيدة التطرف القاتم وتآمر مخططي الشرق الأوسط الجديد المزري، بس يعني لكن...». ولولا الحرج للوحت المذيعة بعلامة النصر على الهواء مباشرة معلنة انتصارها بالضربة القاضية على محاولات ضيفها للتفنيد وجهوده للتوضيح ومجازفاته للتبيين وقالت: «للأسف داهمنا وداهم مصر الوقت. إن شاء الله في حلقة مقبلة يمكننا الحديث باستفاضة عن بس ولكن». وتجاهد قطاعات عريضة في مصر هذه الأيام من أجل تفادي «بس» ولكن وكل ما يتصل بالاستدراك أو تجنبه أو تجاهله أو حتى تأجيله. كثيرون لم يقرأوا دستور 2013، وكثيرون لن يقرأوه، وكثيرون سيقرأونه وإن كان معظمهم سيشارك في الاستفتاء بـ «نعم» لا ريب فيها. وقليلون سيقرأون ويفندون ويحللون وينتقدون ويلقون بالاً لحلقات الحشد وبرامج التجييش وفقرات التجهيز حيث الأثير ينتفض بـ «نعم» لا ريب فيها. انتفاضة «نعم» لدستور 2013 تسطر بحروف من ضباب وليس من نور ابتكاراً سياسياً مصرياً جديداً يجمع الأضداد ويوحد الأطراف ويحشد الفرقاء على قلب «نعم» واحدة حيث البدائل خطيرة والمغبات قاتلة والعواقب خانقة. فالصولان والجولان في دوائر الربيع المفرغة، والنقد والسرد في نصوص الدستور الكثيرة والسب والقذف في كل من هب ودب من فلول عائدة ومطامع متربصة وأحزاب متحولة ونجوم بزغ نجمها وأخرى أفل إلى غير رجعة باتت مضيعة للوقت ومهدرة للجهد ومبخرة للأمل. أمل العودة وحلم القفزة الثانية اللذان لا يزالان يراودان الجماعة عن نفسها وعن قواعدها مضحية بهم في سبيل خيال جامح ووهم شارد يدفعان بها إلى الزج بشبابها وعمالها ونسائها وأطفالها ورضّعها في مواجهة الجيش والشرطة والشعب أملاً بالخلاص. «الشباب عماد الثورة» يهلوسون على أبواب الجامعات وفي حرمها درءاً لدستور الانقلابيين، و «العمال ذراع الثورة» يبدأون مناورة جديدة لدحر انقلاب الإرادة الشعبية وعودة الجماعة المنهزمة عبر تعطيل الاستفتاء من خلال «استراتيجية جديدة ونوعية في الفعاليات الاحتجاجية برفع مطالب اجتماعية واقتصادية فئوية». ويرفع «الحزب الإسلامي» (عضو تحالف دعم الشرعية ورفض الانقلاب المؤيد لمحمد مرسي) مطالب الشعب الاجتماعية من أجل ضم أكبر فئات شعبية لمواجهة «الانقلاب». ويضاف إلى تلك الجهود الحثيثة والمحاولات الصريحة «نساء ضد الانقلاب» و «حرائر سبعة الصبح» إلى آخر القائمة من عفاريت وأطفال وربات بيوت ورضع ضد الانقلاب ستتحول فعالياتهم المقبلة صوب إشاعة الهرج ونشر الفوضى أملاً بعرقلة الطريق نحو الدستور الذي يعني خريطة الطريق المناقضة لمشروعهم. مشروع مصر الذي يرتدي عباءة دستور 2013 ويجمع شعباً متنوعاً وجيشاً واحداً وشرطة مطالبة بإعادة هيكلة ولكن بعد حين، يقف على طرف نقيض من مشروع الجماعة مرتدياً عباءة الحرائر وذي الأذرع العمالية الاحتجاجية والأرجل الشبابية الطالبية والجيوب التنظيمية المحلية والدولية والمباركات الإقليمية والمساندات الثيوقراطية العابرة للحدود. هذه الوقفة الحاسمة تستدعي هذه الأيام من «مصر» توحيداً للصفوف المتفاوتة وإخفاتاً للأصوات الناقدة وتأجيلاً للملاحظات العابرة، وتتطلب من «الجماعة» توحيداً لقواعدها في الداخل والخارج وتنظيماً من قبل داعميها في الخارج قبل الداخل وتأجيجاً للحماسة وتفعيلاً للوعود البراقة سواء تلك المتعلقة بإثبات دنيوية تتحقق يوم يعود مرسي إلى القصر يوم الأحد العصر أو تلك المتعلقة بالآخرة حيث مثوى الشهداء واطمئنان المجاهدين. ومن المجاهدين درءاً لخطر الدستور ودحراً لأطماع العلمانيين وترسيخاً لدخول الإسلام مصر من خلال دستور «الإخوان» ولا دستور غير دستورهم من يجاهد عبر التظاهرات، أو المسيرات، أو التشويهات، أو التغريدات. إحدى التغريدات المجاهدة لنصرة الجماعة ودحر المصريين أعاد الأخوة وكررت الحرائر تغريدها مئات المرات. تقول التغريدة: «التصويت بلا على الدستور شهادة زور. أما التصويت بنعم فشهادة زور وقتل عمد لأنه قبول بالقتل». وبين ملاحم مذبحة الساجدين ومجزرة الراكعين وموقعة المكبرين إلى آخر قائمة الملاحم «الإخوانية» وأساطير إقرار «الدستور علشان العجلة تدور» وأحسن دستور في القرن العشرين ومعها أصوات العقلاء حيث إنجاز خطوة لتفعيل خريطة الطريق والخروج من النفق المظلم، تلوح بشائر أجواء الاستقطاب على التصويت بنعم ولا مجدداً، لا لجودة الدستور أو رداءته، ولا لنصوصه وهويته، ولكن ترجيحاً لكفة وطن على حساب جماعة، أو العكس حيث موضوعية النقاش بـ «لماذا نعم أكيد للدستور؟» وحرمانية «التصويت بنعم للدستور إثم عظيم». إنه استقطاب لموسم 2013 - 2014.
مشاركة :