أعادت وزارة الثقافة المصرية استغلال قصور الثقافة في مراكز المحافظات عبر تحويلها إلى منصة لعرض بعض الأفلام السينمائية تحت مسمى “سينما الشعب” لتصبح منبراً لطرح الأعمال الحديثة والأفلام الروائية والتسجيلية بأسعار رمزية تناسب الطبقات الاجتماعية التي لا تستطيع تحمل عبء تذاكر دور السينما التقليدية ومشقة الانتقال إليها. بدأت التجربة الجديدة مع عيد الفطر في محافظات الإسكندرية وقنا والمنوفية والجيزة كمرحلة أولى، وسيتم تعميمها على محافظات أخرى، وحققت إقبالا جماهيريا يتناسب مع حجم الدعاية المحدودة، إذ لم يتم الترويج لها بقوة على مواقع التواصل الاجتماعي أو وسائل الإعلام. يسري عبدالغني: من الأفضل تكرار تجربة الستينات بعرض الأعمال مجانا تمثل “سينما الشعب” فرصة لإيجاد جماهيرية لأعمال الجهات المنضوية تحت لواء وزارة الثقافة والبعيدة عن الجماهير مثل أكاديمية الفنون والمركز القومي للسينما والإدارة العامة للثقافة السينمائية التي يرتبط إنتاجها بأعمال تسجيلية وروائية لا تسعى إلى الربح التجاري، لكنها معنية بتشكيل الوعي المجتمعي، وفتح الباب للأعمال المستقلة المتميزة التي لم تجد طريقًا للعرض إلا في المهرجانات والمسابقات الرسمية. تم استنباط عنوان المبادرة الجديدة من كتاب “سينما الشعب.. فلسفة الحس الشعبي في أفلام صلاح أبوسيف” للدكتور ناجي فوزي أستاذ النقد السينمائي بأكاديمية الفنون في القاهرة، والذي تناول في 850 صفحة مفهوم الحس الشعبي، مع التركيز على المخرج الكبير صلاح أبوسيف كرائد للسينما الواقعية بمصر في أعماله القصيرة والطويلة، والتي تضمنت بعدًا تنويريًا. تتبنى وزارة الثقافة نهجًا يعتمد على توظيف الفنون كقوى ناعمة في تشكيل الوعي العام ومجابهة الفكر المتطرف من خلال مواد إبداعية جادة وهادفة، ويمكن اعتبار “سينما الشعب” امتدادًا لتجربة مسرح “المواجهة والتجوال” الذي جاب قرى ونجوعا في مصر وسمح لفئات عديدة بمشاهدة عروض حية لأول مرة والمشاركة أحيانًا في التمثيل بها. قوى ناعمة السينما فن ناعم يساهم في مجابهة الفكر المتطرف السينما فن ناعم يساهم في مجابهة الفكر المتطرف يتماشى التركيز على المحافظات المصرية مع الجهود التي تبذلها الأجهزة الأمنية، فمنذ سنوات برزت أسماء مناطق بعينها في شمال مصر وجنوبها وأطراف القاهرة كحاضنة لقوى التطرف الديني، وكان التركيز منصبا على العدالة الثقافية والبعد عن المركزية واستهداف المناطق الأبعد. يصل عدد دور “سينما الشعب” حاليًا إلى نحو عشرة، وبعدها تبدأ المرحلة التالية وتضم 5 دور عرض، وسوف تبدأ مع حلول عيد الأضحى المبارك مع الإبقاء على سعر التذكرة عند 40 جنيهًا للفيلم (نحو 2.10 دولارات)، وبالتزامن مع ذلك يتم تجهيز قصور الثقافة بباقي المحافظات حتى يتم مد التجربة إليها تباعًا. رغم تأكيد وزارة الثقافة على الدور التوعوي للمبادرة، إلا أن الاتفاق مع شركات التوزيع الكبرى واختيار فيلم (واحد تاني) بطولة الفنان أحمد حلمي الكوميدي تم عرضه في 4 حفلات شبيهة بجدول العرض المعتاد في أوقات الواحدة ظهرا والثالثة عصرا، فضلا عن حفلات السادسة والتاسعة مساء ومنتصف الليل، وهو ما يجعل قصور الثقافة دور سينما مع اختلاف الجمهور المستهدف. قال الناقد الفني أحمد سعدالدين إن مشروع “سينما الشعب” أعاد إحياء دور قصور الثقافة مرة أخرى وحولها إلى دور عرض لمشاهدة الأفلام وتستقطب الجماهير بعدما كانت مجرد مبانٍ تضم موظفين من دون أداء دورها الحقيقي في نشر الوعي الثقافي والفني في محيطها الاجتماعي. وحققت المبادرة إيرادات بنحو 214 ألف جنيه (11.5 ألف دولار) في فترة العرض الأول، وربما يكون الوازع وراء ذلك اختيار عمل جديد معروض بالسينما بطولة الفنان أحمد حلمي صاحب الشعبية الجماهيرية الكبيرة. وأضاف سعدالدين لـ”العرب” أن عرض الأفلام الجديدة في قصور الثقافة يتطلب توفير اشتراطات خاصة من قبل القائمين عليها لمنع تصوير الأعمال المعروضة ونشرها إلكترونيًا ما يضر بالصناعة، لكن الأعمال المستقلة وغير التجارية التي سبق عرضها لا توجد بها مشكلة. "سينما الشعب" تمثل فرصة لإيجاد جماهيرية لأعمال الجهات المنضوية تحت لواء وزارة الثقافة والبعيدة عن الجماهير "سينما الشعب" تمثل فرصة لإيجاد جماهيرية لأعمال الجهات المنضوية تحت لواء وزارة الثقافة والبعيدة عن الجماهير ويحمل توظيف قصور الثقافة في نشر الوعي قدرًا من التشابه بتشكيل الثقافة الجماهيرية في الستّينات من القرن الماضي قبل أن يتم التخلي عنها لصالح دور السينما التجارية في السبعينات وتنحسر الثانية لصالح قاعات السينما المصغرة في المولات التجارية الكبيرة لتفقد الثقافة السينمائية جزءا من شعبويتها وترتبط أكثر بالقدرة المالية. نشأت قصور الثقافة في مصر تحت مسمى الجامعة الشعبية عام 1945 بقرار من وزير المعارف العمومية آنذاك عبدالرزاق السنهورى، ثم تغير اسمها سنة 1965 إلى الثقافة الجماهيرية، وفي عام 1989 صدر قرار من رئيس الجمهورية حسني مبارك لتتحول إلى هيئة عامة ذات طبيعة خاصة وأصبح اسمها “الهيئة العامة لقصور الثقافة” على أن يكون دورها هو تشكيل الحالة الثقافية في المحافظات وإذكاء روح البحث والابتكار. فقدت قصور الثقافة دورها مع مرور الوقت وتحولت إلى أماكن شاغرة، قبل أن تعلن وزارة الثقافة منذ ثلاثة أعوام عن خطة لتأهيل 500 قصر ثقافة في جميع أنحاء البلاد من أصل 600 وحصر قاعات السينما داخلها والعمل على تطويرها ومضاعفة المخصصات المالية الخاصة بها من موازنة الوزارة وتحويلها إلى منصة للعروض المسرحية والفنية. أكد الناقد الفني طارق مرسي لـ”العرب” أن الخدمات التي تقدمها قصور الثقافة بمصر حاليًا تعيد إلى الأذهان تجربة وزارة الثقافة في عصرها الذهبي بعد ثورة يوليو 1952 وتحديدًا خلال فترة تولي ثروت عكاشة المسؤولية. وأوضح أن مشروع “سينما الشعب” يشير إلى محددين، أحدهما تقديم الدعم لمحافظات مصر ومساعدة صناعة السينما في نهضتها، والتي تأثرت بقوة بعد جائحة كورونا، والآخر تراجع الإنتاج السينمائي بما يجعل الخطوة نقطة دعم لدور العرض بعد زحف التكنولوجيا، ولتصبح في متناول الجميع. تجربة ناجحة مصر تعيد إحياء السينما الجماهرية من جديد مصر تعيد إحياء السينما الجماهرية من جديد يتكامل مشروع “سينما الشعب” مع مسرح “المواجهة والتجوال” الذي قدم في مرحلته الثانية 325 ليلة عرض، وهو ثلاثة أضعاف عدد ليالي العرض في المرحلة الأولى، وتناول أعمالا عن أطفال الشوارع ومجهولي النسب ودور المسنين والإرهاب، وتطرق إلى بعض القضايا الاقتصادية المهمة. وذكر طارق مرسي لـ”العرب” أن مشروع “سينما الشعب” يعمل على زيادة دور العرض السينمائية التي لا تتجاوز حاليا 320 دارا، وهو عدد محدود للغاية، مقارنة بعدد السكان، أكثر من مائة مليون نسمة، ويعمل المشروع مع التوسع المخطط له على زيادة عدد الدور، وإحداث نقلة كبيرة بصناعة السينما، بعد الترحيب الواسع من السينمائيين أنفسهم على مستوى الإنتاج والتوزيع. تعود جذور “سينما الشعب” إلى عام 2010 حينما قدم المشروع الفنان تامر عبدالمنعم مدير عام الثقافة السينمائية بالهيئة العامة لقصور الثقافة للوزير فاروق حسنى بصفته مدير قصر السينما، لكن أحداث ثورة يناير 2011 أوقفته، وكان يرتكز على سبعة دور عرض وافق عليها أحمد مجاهد رئيس هيئة قصور الثقافة في ذلك الوقت، أما مشروع “سينما الشعب” الحالي، فهو أشمل وأهم ويضم 40 دار عرض قابلة للزيادة. يؤكد مثقفون أن الدولة المصرية ترى في الفعاليات الثقافية محورا مهما في معركتها ضد التعصب والجهل، حيث تسهم الثقافة في زيادة رغبة وقدرة الفرد على المشاركة في الأعمال التطوعية، وبدورها تزيد من مهارات التواصل بين أفراد المجتمع وتستقطب فعالياتها مختلف شرائح الجمهور وتنمي المشاركة العامة وخدمة الاقتصاد المحلي بتشجيع السياحة الداخلية. توصيف جيد أحمد سعدالدين: المبادرة أحيت قصور الثقافة وحولتها إلى منصّة عرض سينمائي شهدت “سينما الشعب” تركيزًا على “التجلي”، وهو فيلم تسجيلي قصير مدته 5 دقائق، صنعه شباب من خريجي الدراسات السينمائية، ويتحدث عن التآخي وتلاقي الأديان السماوية، وتم تصويره في مجمع الأديان بمدينة سانت كاترين ودير القديسة كاترين وكنيسة التجلي وجبل موسى والشجرة المعلقة ومسجد الدير وجبل البنات ومتحف الدير ليشمل أبرز الأماكن الدينية. قال الناقد الدكتور يسرى عبدالغني إن الفكرة جيدة، لكنها تحتاج إلى توصيف لدور قصر الثقافة كبيت للأسرة المصرية يحتم اختيار نوعية معينة من الأعمال المعروضة ضمن “سينما الشعب”، فعمل مثل فيلم “واحد تاني” لا يرقى إلى العرض كباكورة الأفلام المعروضة ضمن المشروع الذي يهدف إلى توظيف الفن كسلاح للتوعية الاجتماعية وتقديم رسائل هادفة للجمهور. وأشار لـ”العرب” إلى أن قيمة التذاكر بالمشروع ربما تكون حائلاً دون جذبه قطاعا عريضا من المواطنين، ومن الأفضل تكرار تجربة الستينات حينما كانت الأعمال السينمائية تقدم مجانا في مشروع سينما الشارع وتعرض الجديدة أمام المؤسسات الحكومية في غالبية مناطق القاهرة، كذلك السينما الشعبية التي كانت تقدم الأفلام بعد عرضها بأسبوع واحد في دور السينما التجارية بمقابل زهيد لعرض ثلاثة أفلام معا في برنامج واحد. قد تعوض فكرة “سينما الشعب” عصر سينمات الدرجة الثالثة المعروفة بـ “الترسو” بعد هدم سينما الكورسال بوسط القاهرة منذ سنوات، وكانت تلك الدور تعرض عدداً من الأعمال السينمائية بمقابل زهيد لا يتعدى 15 جنيهًا (أقل من دولار) لثلاث حفلات متتالية، واستقطبت جمهورا واسعا من العمال والطلاب والباعة الذين كانوا ضيوفا دائمين على مقاعدها.
مشاركة :