بدأت السخرية والنقد اللاذع أو ما يسميه البعض "طقطقة" تنتشر في مجتمعنا وتتطور ويستحدث عليها أمور لم تكن في الحسبان، وأصبح هذا السلوك ظاهرة لم يسلم منها العديد من أفراد المجتمع، حتى أنَّ بعض المسؤولين أصبحوا في مرمى سهام من يصنعها ومن يروج لها، فهل هي نوع من التنفيس؟، وهل هي ظاهرة صحية أم العكس؟، وما مدى تأثيرها؟، وما هي نتائجها سلباً أو إيجاباً على المجتمع بشكل عام، وعلى المعنيين بها بشكلٍ خاص؟ صناعة النكتة وقالت مها الشهري –ناقدة وباحثة في الدراسات الاجتماعية-: "إنَّ صناعة النكتة فن، وهي تخضع كدلالة لحدوث متغيرات ثقافية، وفي ظل الأزمات المتمادية تكشف لنا النكتة كتعبير رمزي الكثير ممَّا يتطلع إليه أفراد المجتمع، بما تتضمنه تعبيراتهم من الخيالات المضحكة أحياناً، فأصبح الانتقاء العملي لموضوعها أمراً يجعل الضحك ممكناً، ولكونها نوعاً من النقد الساخر في أحيان كثيرة، فيمكن التعبير عنها بنكتة الوعي، لكونها تمثل وسيلة علاجية للخروج عن الشعور السلبي الناتج من الأزمات". وأوضحت أنَّه قد يكون الكثير منها في شكل الرمزية، التي تعكس شيئاً مؤلماً من حياة الواقع، بينما تقدم بشكل لاذع يجابه قسوة الظروف الصعبة، غير أنَّ انتشارها في مجتمعنا ينطوي على ظروف ومضامين وأبعاد ثقافية، مُضيفةً أنَّ بعض أحاديث النكتة تقتضي في لغتها وأسلوبها تقديماً لفكرة ما، بينما تهدف في شكل مقصود أو غير مقصود وبطريقة ساخرة لمعالجة المشكلات التي يتضرر منها الفرد في الأصل، فهي سلاح المهموم، التي يتساوى في تحمل مرارتها المهتم بالقضايا الاجتماعية من الناس واللامبالي معاً. تحولات اجتماعية وأكَّدت مها الشهري، على أنَّ النكتة قرَّبت أفكار الأشخاص بتفاوت فروقاتهم، وهذا في ظل سرعة انتشارها وتداولها، باعتبارها نتاجاً فكرياً طريفاً يصل إلى تطلع الكثير من شرائح المجتمع، وبالتالي يمكن أن يطالهم جميعاً، مُضيفةً: "بما أنَّ النكتة تُعدُّ كالنزهة، فإنَّه يمكن أن تفتعل لقهر القهر، إلاَّ أنَّه يمكن اعتبارها مؤشراً وعاملاً لحدوث بعض التحولات الاجتماعية، فحين يتوجه إليك السؤال: هل سمعت آخر نكتة؟، تجيب وأنت متبسم بلا في الغالب؛ لأنَّك تظل منتظراً ومتلهفاً لتسمعها كمفاجأة، وكوسيلة لا تستطيع أن تقاوم تطلعاتك للجديد الذي تعبر عنه". وأضافت أنَّ النكتة إن كانت تحمل قدراً كافياً من النقد الذي يحفز على صنع التحول الفكري في المجتمع، فإنَّ هذا يعني أنَّها تشغل الكثير من اهتمام الفرد، إلى جانب كونها مسوغاً تعبيرياً يمكن من خلاله أن نتنفس الاحتقان ونعبر عن الامتعاض من قضايانا ومشكلاتنا في قالب مقبول يساعد ولو لفترة زمنية في تقبل الواقع، مُشيرةً إلى أنَّ النكتة تتطور بين فترة وأخرى في أسلوبها ومضامينها ودوافعها، كما أنَّ صغار السن استطاعوا التعبير بالنكتة في محاولة ابتكار واقع أفضل يتطلعون إليه. ثقافة جديدة وبيَّنت مها الشهري، أنَّ وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت أرضاً خصبة لنمو هذه الطريقة الفكرية، التي تُحفِّز على صناعة شيء أفضل في المستقبل، وبذلك يمكننا أن ندرك كيف أنَّ النكتة يمكن أن تؤخذ كمعيار تقييمي لدراسة فكر الشباب وما يتطلعون إليه، أيّ أنَّها شأن لا يمكن الاستهانة به، ونلاحظ أنَّ الفرد يسخر من مخاوفه ومشكلاته، لكنَّ الرغبة في تحقيق التغيير هنا تغلبت على الشعور بالمشكلة، وهذا يعني أنَّ هناك ما ينتج ثقافة جديدة للتعامل مع الواقع. وقالت: "غير أنَّ النكت إذا ما قدمت بطريقة النقد الساخر الذي لا يظن البعض أنَّه ذو أهمية، إلاَّ أنَّها على الجانب الآخر تقدم دوراً جيداً في البناء وتصحيح الأخطاء التي قد تأثرنا من سلبياتها، وذلك يعطي شرعية ومرونة لتقبّل رغبة الفرد تجاه حقوقه، الأمر الذي يحقق المزيد من التطلعات لإحداث التغيير إلى الأفضل". النقد البنَّاء ورأى عائض الشهراني -مستشار اجتماعي والتربوي، وخبير دولي بفن "الإتيكيت" وتعديل السلوك- أنَّ هناك من يخلط بين مفهومي النقد والسخرية، مع العلم أنَّ النقد الساخر هو أسلوب يتبعه كبار النقاد في العالم بعدة أشكال مختلفة الهدف منها إصلاح المجتمع أو إيصال فكر معين بعيداً عن التشكيك أو التجريح أو الشخصنة، وذلك بالحديث عن أخطاء يقع فيها عامة الناس أو يكون في عمل من الأعمال التي يقوم بها الناس بطريقة خاطئة ربما تكون مقصودة أو غير مقصودة، بحيث يمكن لمرتكبها أن يتفادى الوقوع فيها مرة أخرى. وأشار إلى أنَّ النقد عادةً ما ينصب على فئة معينة من فئات المجتمع، كأصحاب الشهرة والمناصب، مُضيفاً أنَّ نقد الأعمال لا يُعدُّ تجريحاً، موضحاً أنَّ على صاحب هذه الأعمال تقبُّل النقد، بل وأن يتوقع أن يكون النقد على أبسط الأمور، لاسيّما إذا كان النقد بعبارات لطيفة غير جارحة ولا خارجة عن معياريّ الأدب والذوق بهدف الإصلاح وتدارك الأخطاء، مُبيِّناً أنَّ هذا ما يسمى بالنقد البنَّاء، وهو ما يحرص عليه كل إنسان ناجح ومميز في الحياة، وكما كان يقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "رحم الله من أهدى إليّ عيوبي". وأضاف أنَّ هذا هو ما نحن بحاجة إليه من أجل أن تنمو مجتمعاتنا وتتطور، وذلك بتدارك أخطائنا وتجاوز ما يواجهنا من عقبات ضمن الإمكانات المتاحة، مؤكِّداً على أنَّ الناقد الحق لابُدَّ أن يهتم ويتابع ويمتلك دراية أدبية ولغوية وعلمية فيما ينقد، إلى جانب كونه ذا خبرة في المجال الذي ينتقده، فلا يستخدم الرموز المصورة ولا الكلمات أو العبارات غير المفهومة أو المبتذلة، إلى جانب عدم توجيه نقده لأسباب شخصية، كما أنَّ عليه أن يراعي عمله ويتحمل أمانته، وإن أخطأ بحق أحد بادر بالاعتذار له ولمن استمع له. تطبيق القانون ولفت الشهراني، إلى أنَّ على الناقد ألاَّ ينقد إلاَّ بعد أن يتأكد من صحة ما يقول أو يكتب، مُضيفاً أنَّه يجب عليه أن يكون متمسكاً بمبادئه، وأن يرتكز على أدلة وقرائن فيما يتحدث عنه، وأن يوجد الحلول والبدائل ولا يتركها لمن نقده، موضحاً أنَّ النقد اللاذع غير المهذب والجارح، الذي يحمل عبارات مسيئة، كالهمز واللمز والافتراء والسب والشتم والكذب والإساءة وزعزعة الأمن وتصيد الأخطاء وإثارة البلبلة وعدم مراعاة الحرمات، عندما يواجه صاحبه الآخرون بالدلائل والقرائن التي تبطل افتراءه، فإنَّه يكون فاقداً لحس المنطق ويعاني من فراغ داخلي وإحساس بالنقص والعجز، إذ يحاول بذلك جذب انتباه الآخرين. وأكَّد على أنَّ هذا هو ما نلحظه هذه الأيام في معظم وسائل التواصل الاجتماعي من ظهور فئة تحمل الكثير من السمات السابقة، متمنياً أن يطبق بحقهم ما نصت عليه مواد القانون والتشريعات المطبقة في معظم دول العالم، إلى جانب تفعيل الدور الرقابي الفعلي، لكي ننهض بمجتمعنا ونرقى بأفكار ومفاهيم الأجيال القادمة، كشعب متحضر وفق القيم والعادات الإسلامية الحقه، حيث إنَّ لنا في نبي الهدى -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة، مصداقاً لقوله: "إنَّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". قرار جماعي وقال د.أبو بكر باقادر -باحث اجتماعي-: "إنَّ السؤال الذي يطرح نفسه هو: متى يكون النقد هادفاً، ومتى يكون غير ملائم؟، فهذه نقطة في غاية الأهمية إذا انتقلت من مستوى الفرد إلى مستوى الجماعات، ويكمن ذلك في أهمية الكلام وفي أيّ سياق يقال، وإلى ماذا يهدف، أو ما النتائج المترتبة عليه"، مُضيفاً أنَّ "الطقطقة" إذا كانت من أجل "الطقطقة"، فإنَّ المجتمع يصبح غير جاد، ومن ثمَّ على الأشخاص ألاَّ يأخذوها بشكل جدي، لكن –للأسف- فإنَّ أيّ خبر ينقل في الإعلام يصبح مادة يتداولها النَّاس ويبنون عليه مواقف وسلوكيات وأفكارا. وأشار إلى أنَّ مجتمعنا أصبح عبارة عن عالم من النقد الإيجابي والواقع، بينما أصبح إبداء الرأي رمادياً مع أشياء أخرى، وهذا يعكس حالة تتسبب في ضياع هيبة القرار الجماعي، وإذا كانت في طقطقة تحول دون هذا الإجماع وتتسبب في عدم تقدم المجتمع وتعاضده وخلق روح جماعية ووعي جماعي، ومن ناحية أخرى إذا استخدمت الطقطقة تجاه أشخاص محددين، فإنَّ هذا يخلط بين الحكم العادل والظني؛ لأنَّه قد يصيب بعض الأشخاص المخلصين، الذين يعملون ويكونون عرضة لسوء الظن أو إساءة شخصية. معايير موضوعية ودعا د.باقادر، إلى أن تكون هناك معايير موضوعية بغض النظر عن الشخص الذي سيتم التعليق عليه، وماهيَّة الإمكانات المتاحة له، ولماذا وكيف اتخذ قراره؟، وهذا يعني أنَّنا يجب أن نبدأ بالتفكير في نوعية السرد المطروح للحدث الذي أمامنا، وهذا يتطلب التوضيح، هل الطقطقة من أجل تصحيح وضع، أم للإساءة لشخص أو مؤسسة، أم للترويج للإحباط؟، مُضيفاً أنَّ "الطقطقة" تنتقل من مجرد مزحة ومضيعة للوقت إلى شعور إحباطي يجعل المجتمع إمَّا أن يُدمّر نفسه، أو أن يتجاوز النقد الحقيقي البنَّاء إلى النقد الشخصي أو الإساءة. وبيَّن أنَّ السخرية ربَّما كانت إيجابية، أمَّا الطقطقة فهي في الغالب لنشر الإحباط أو أنَّ المسؤول مهما فعل فهو مذنب سلفاً، فهي لا تقوم على الموضوعية أو القوانين أو العدل أو توخّي الصالح العام، مُضيفاً أنَّ وعي المجتمع مهم في هذا الشأن، بمعنى أنَّ عليه أن يكون أكثر نقداً للخبر الذي يصله ومصدره وطريقة تقديمه والنتائج المترتبة عليه، وأن يسعى إلى عدم مواجهة الحقائق أو إخفائها. سمات شخصية وأوضح د.محمد بن مترك القحطاني -أستاذ علم النفس المشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- أنَّ عناصر "الطقطقة" تتركز في الوراثة، إذ يرث البعض السمات الشخصية الاجتماعية أو المرحة من والديه أو أجداده، وأحياناً تكون مكتسبة من الأسرة عن طريق الأم أو الأب أو من الجماعة أو الأصدقاء في العمل والمدرسة، كما أنَّ هناك من يكتسبها من خلال وسائل الإعلام والأفلام والمسرحيات الكوميدية، إلى جانب وجود من يكتسبها عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي. وأضاف أنَّ هناك نوعين من الطقطقة، المزاح مع الطرف الآخر، أو الاستهزاء بالطرف الآخر، مُضيفاً أنَّ للطقطقة بعض الإيجابيات، حيث إنَّها ترسم الابتسامة على وجوه الناس وتجعل الحياة بسيطة، كما أنَّها قد تكون هادفة عندما توضح مشكلة معينة وتوضع لها الحلول المقترحة من باب المزاح، مُشيراً إلى ما يقوم به بعض المشايخ والأكاديميين في المحاضرات التي يلقونها، حيث يكونون حينها خفيفي الظل من أجل ترغيب الناس في العلم، لافتاً إلى أنَّ من إيجابياتها أيضاً التنفيس الانفعالي، وذلك من خلال إفراغ بالون التوتر لدى الشخص، حيث يخرج ما فيه من تراكمات عندما يضحك، إلى جانب كسر الروتين اليومي. وأكَّد على أنَّ "الطقطقة" حينما تكون غير هادفة وتمس كرامة الآخرين، فإنَّ لها العديد من السلبيات، ومن ذلك تجريح الآخرين وكسب الذنوب وزيادة الضغينة والتفريق بين أفراد المجتمع، مشيراً إلى أنَّ الذكور أكثر نسبة من الإناث في ممارسة "الطقطقة"، نظراً لرقَّة المرأة، لافتاً إلى أنَّ "الطقطقة" تتشكل في مرحلة المراهقة، نظراً لتعامل هذه الفئة مع وسائل التواصل الاجتماعي.
مشاركة :